الرياح العاتية هبت على ذاكرتي فمسحت آثار ذكرياتها، ولم أعد أتذكر متى أو في أي مقالة كتبت “الديمقراطية في الكويت شِم ولا تذوق”، كما يغني وديع الصافي. ويتباكى أبناء الشيطان وأقرباؤه من الدرجة الأولى: “حتى الخليجيون كرهوا الديمقراطية بسبب تصرفات نوابنا – نواب الكويت – وصحافتنا”، ونتباكى نحن ونتساءل: “كيف يكرهون العدم؟ وهل عندنا ديمقراطية من الأساس كي يكرهوها أو يحبوها ويتغزلوا بها؟”. لا ديمقراطية في الكويت يا ابن عمي ولا نصف ديمقراطية ولا حتى ربعها. وأتذكر أثناء الدراسة العسكرية في القاهرة، عندما خرجنا في تدريب على المسير الطويل لاختبار قدرتنا على التحمل استغرق 48 ساعة، وكدنا نموت جوعاً، وأوشكنا على البكاء، ولولا الحياء لكشفت أن بعضنا بكى بكاءً يخجل الخنساء، وكنا كلما تساقطنا لشدة الجوع صرخ فينا الضابط: “هانت، كلها خطوتين كمان وهترتاحوا وتاكلوا بمزاجكم”، وتتمدد الخطوتان بقدرة قادر إلى ساعتين، وثلاث ساعات، وسيارات الإسعاف بين كل دقيقة وضحاها تحتضن “الخسائر” منا… وأخيراً وصلنا… وتشرفت بالسقوط فاقداً الوعي، لتنقلني سيارة الإسعاف، وتشرفت بأن شتمت الضابط وسائق الإسعاف والأمة العربية جمعاء لشدة الوهن والجوع، وجاء طبق الأكل، وكان عبارة عن أقل من ملعقة كبيرة من الفول المنقوع بزيت لم يُعرف من أين تم استخراجه، وصرخ الضابط فينا: “خد بصباعك يا روح خالتك أنت وهوّه”، أي “كل بإصبعك”، فعلقنا همساً، نحن أرواح خالاتنا: “ومن الذي كان ينتظر أوامرك أصلاً يا روح عمتك”، وما هي إلا ثانيتان حتى “قُضي الأمر”، وجعلنا عالي الأطباق واطيها، وتركناها ينعق فيها البوم، ولحسناها لحساً مبيناً، قبل أن نتساقط إلى جانبها، لا يفقه الواحد منا ما يدور حوله. وفجأة صرخ فينا العساكر كي نقف استعداداً لقدوم القائد، وجاء القائد، لا حيّاه الله ولا بيّاه، فوقف أمامنا بغرور قائد جيوش الأناضول، وخاطب الضابط الأصغر رتبة: “كلوا حاجة؟”، فأجابه: “أيوه يا أفندم، كل واحد فيهم خد صباعين”، فردّ القائد بغضب مصطنع: “ليه؟ ما بيستاهلوش أصلاً، دول قطعوا المسافة في وقت أكثر من المسموح، ده أمي لو كانت معاهم كانت علمتهم الخشونة ازاي والتحمل على أصوله”، ثم أضاف وقد ازداد تصنعه وتكلفه: “المرة الثانية خليهم يشموا الأكل بس من غير ما يدوقوا، مش عاوز دلع”، فارتفع نشيجنا: “وهيّه فيها مرة ثانية يا أفندم؟”، وبدأنا نتساقط، واحداً تلو الآخر. والديمقراطية في الكويت أقل من ملعقة فول، بدأت بـ”خد بصباعك” ووصلت إلى “شِم ولا تدوق”، بعد قرار الحكومة شطب المرشح د. فيصل المسلم لأنه كشف رشوة تحت قبة البرلمان. ويشهد الله أننا في الكويت نكاد نموت لشدة الجوع، والسلطة ما زالت تصرخ فينا: “هانت، كلها خطوتين”.