إذا كان سيف عنترة “يداوي رأس من يشكو الصداعا”، فإن صفحات الثقافة في جريدتي “الجريدة” و”القبس” تداوي ذائقة من يشكو الغثاءَ.
وكنت قد قرأت في جريدة “الجريدة” مطلع هذا النهر الجاري، أو الشهر الجاري (أحب ديسمبر لأنه شهم، فهو المسؤول عن بقية الأشهر، يلملم أغراضها ويتفقد المكان بعد مغادرتها خشية نسيان شيء مهم، ولا يغادر المكان إلا بعد أن يطفئ الأنوار ويغلق الأبواب ويشكر مضيفيه… شهر يتحمل المسؤولية ويستحق التقدير)، أقول قرأت في هذا الشهر الشهم، في هذه الجريدة، عن كتاب “رجال الشرفات” الذي صدر حديثاً لبنت مدينة عاليه اللبنانية منى خويص، فوضعته في قائمة “الكتب المطلوب قراءتها”، وقرأت ملخصاً عنه في مقالة سمير عطا الله (بالمناسبة، لماذا لا تُكتب هكذا “عطاء الله”؟ أفتونا يا أهل اللغة).
الكتاب يتحدث عن الزعماء ذوي الخطابات الجماهيرية التي يلقيها من الشرفات زعماء تاريخيون أمثال موسوليني وهتلر والقذافي وغيرهم، وكيف أن خطاباتهم خاوية لا مضمون لها، وكيف يفعلون بخصومهم، حيث لا يقبلون الرأي الآخر، وما شابه.
وكنت أتحدث مع صديق “حكومي أنيق” عن الكتاب فقهقهَ: “مسلم البراك هو الوريث الشرعي لهؤلاء” يقصد موسوليني وهتلر والقذافي وأمثالهم، وأكمل: “لو عاش البراك في أوروبا في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي لحكمَ دولة أوروبية وقادها إلى الحروب وأهلك الأرض” قلت: “سأرد عليك” فقاطعني: “طبعاً سترُد… فعين الرضى عن كل عيب كليلة”، فأكملت: “عين الرضى، عين السيح، عين الحسد، لا يهم، المهم أن البراك عاطفي بطبيعته، البراك رجل غارق في المروءة، وهذا قد لا يلفتك للوهلة الأولى، لكنك لو تفكرت لأدركت مغزى حديثي”.
على أن أكثر ما يحيّرني هو “الالتصاق السياسي” بين الزعيم أحمد السعدون والملهم مسلم البراك، رغم اختلاف الأسلوب، بل تناقضه، وتضاده. فالأول يرسم الخطوط العامة، ويجد الوقت للتوقف عند التفاصيل، والثاني لا يلتفت إلى التفاصيل بتاتاً ولا يعترف بوجودها. الأول دقيق والثاني فوضوي. الأول عقلاني والثاني عاطفي. الأول إذا رآك تغرق في حمام السباحة فسيبحث عن طوق نجاة لك مستعيناً بعقله وتماسكه وسينقذك قبل أن تموت بثانية واحدة، أماالبراك فسيرمي عقله قبل أن يرمي نفسه خلفك مباشرة بلا تفكير، فإما أن تغرقا معاً أو أن تنجوا معاً.
البراك يخاطب الجماهير وينهضها من مقاعدها لتسير “سكرانة” في الاتجاه الذي يشير إليه، لثقتها به، والسعدون يخاطب السلطة من خلال الجماهير، فينهضها من أسرّتها مرعوبة لتعقد اجتماعاتها. وإذا كانت الجماهير تفتح أفواهها دهشة وإعجاباً أثناء خطابات البراك، فإن السلطات تفتح دفاترها وأذهانها وتمسك أقلامها بأيدٍ مرتجفة عندما يبدأ السعدون خطابه، فخطابه يحمل رتبة “المخيف الركن”.
وباتحاد هذين الزعيمين، وبتبادلهما المهام، تسقط حكومات وتولد أخرى، يدرك ذلك خصومهما قبل أنصارهما. واحد منهما كان يكفي ويسد حاجة شعب كامل، وقد اتحدا، بقدرة ربك. بينهما يتلفت الفاسدون كما يتلفت جمهور “التنس”، يميناً ويساراً، مع حركة الكرة وهي تنتقل بين بطلي العالم، وفي نهاية المباراة يفوز اللاعبان والشعب ويخسر الفساد والفاسدون.
السعدون والبراك أثبتا بالملموس كذب المقولة العربية الجبانة “الكثرة تغلب الشجاعة”… وأثبتا صدق مقولتي التي لا أمل ترديدها: “التعسف في الفساد يحتاج إلى تعسف في المعارضة… تطبيقاً لقانون نيوتن”.