أعشق قراءة التقارير الحيادية والاستفتاءات العالمية، وأتذكر استفتاء قرأته قبل نحو سنتين، قامت به مجموعة من طلبة جامعة أميركية عن «أسعد مدن العالم لعام 2009»، تصدرته مدينة «ريو دي جانيرو» البرازيلية، التي تغسل قدميها في سطل المحيط الأطلسي، تلتها ملبورن الأسترالية، فبرشلونة الإسبانية، فأمستردام الهولندية، فسيدني الأسترالية أيضاً، إن لم تغدر بي الذاكرة، في حين جاءت بغداد من بين المدن الأشد كآبة، وجاءت القاهرة في الثلث الأخير من القائمة.
الاستفتاء يرصد مدى طمأنينة الشعوب وحبها للسعادة والرقص والغناء والسهر في عطلة نهاية الأسبوع، ويقيس ارتفاع صخب الضحكات في المقاهي والمطاعم والحانات ووو.
وأفهم أن يأتي ترتيب القاهرة في الثلث الأخير من التصنيف رغم فكاهة المصريين، فالمصريون ليسوا من الشعوب التي ترتاد الحانات، ولا هم من عشاق الرقص في المطاعم والمراقص (أتحدث عن غالبية الشعب)، لأسباب دينية واجتماعية تنتقد مثل هذه العادات بالنسبة للغالبية المحافظة والمتدينة بالسليقة، وطبعاً لا يمكن إغفال الأسباب المادية أيضاً.
ومن أسباب تفوق شعب هذه المدينة على شعب تلك هو «ثقة الشعب بقيادته وحكومته وبرلمانه واطمئنانه إلى قدرة سياسييه على حسن التصرف حيال الكوارث، وحسن إدارة الأزمات، والتخطيط الاستراتيجي الطموح، واحترام القانون»، وفي هذا المعيار تحديداً تفوق الهولنديون بفارق كبير عن غيرهم (هولندا أخيراً انتزعت المركز الأول عالمياً من أنياب فنلندا، رغم أن الهولنديين من سلالة لا ينظر إليها بقية الأوروبيين باحترام، ولا يزوجونهم، و«ما هم من مواخيذهم»). والغريب أن طوكيو وبقية مدن اليابان، على سبيل المثال، لم تتصدر القائمة رغم إيمان شعب اليابان بإمكانيات سياسييه، إلا أن مشكلة اليابانيين أنهم ليسوا من أهل الضجيج والصرقعة، ولا هم يعشقون الرقص والسهر، فهم جدّيون حتى في طعامهم وشرابهم ومنامهم ورقصهم.
والحمد لله الذي لم يخلقني يابانياً، فأنا أكول مخضرم ونؤوم معجرم وكسول بكفالة المصنع وفوضوي ملخبط من الغلاف إلى الفهرس، لا يهمني نوع الطبق الذي تضعه أمامي ولا مذاقه، وسأوقّع لك وصل أمانة وسأتعهد بأن أحاصر الطبق و«أحرره» بسياسة الأرض المحروقة، وأرفع علمي على بوابته في بضع ثوان. ثم إن هؤلاء الصُّفر (اليابانيين) لا يشجعون الخناقة الحلوة في مراحل الصبا المبكر، وأنا كنت من المواهب الشابة في هذا الحقل، وأتلذذ بطعم الخناقة، ومازلت أتذكر «حرب البسوس» مع أحد أبناء الجيران، عندما كنا نتخانق يومياً إلى أن ينهكنا التعب، ثم نرتاح قليلاً قبل أن نستأنف الخناقة ونحن نبكي لشدة التعب والألم! الله يرحم تلك الأيام التي كانت فيها كلمة «الله يسامحك» ساس العيب وشق الجيب.
وأظن أن أحد أهم أسباب تفوق مدينة ريو دي جانيرو (ترجمتها «نهر يناير») هو وجود أكبر غابة استوائية في المناطق الحضرية المأهولة بالسكان، وكانت البرازيل تحت الاحتلال البرتغالي، عندما أمر الإمبراطور بقطع أشجار الغابات المحيطة بالعاصمة لأسباب أمنية، ومات – في بدايات القرن السابع عشر – قبل أن يتمكن من إنجاز المهمة، فخلفه الإمبراطور «بيدرو»، معشوق البرازيليين، الذي أوقف قطع الأشجار وأمر بزراعة أكبر غابة استوائية في العالم، ما أدى إلى تنقية الجو وتخفيف درجات الحرارة في «ريو» بمعدل تسع درجات مئوية. تخيل.
اللافت هو أن القائمين على الاستفتاء أجمعوا على نقاط عدة اعتقدوا أنها من الأسباب التي تؤثر على السعادة سلباً أو إيجاباً، ومنها، يا للعجب، «مخططات البلدية وكفاءتها» و«نسبة مساحات اللون الأخضر (الحدائق والغابات)» في كل مدينة… وفي الكويت، يتساءل الناس عن أسباب كل هذه الكآبة التي تعم البلد، في الوقت الذي تحقق فيه البلدية أرقاماً أولمبية في الفساد، وينسحب اللون الأخضر أمام هجوم اللون الأشهب.
***
قرر مجموعة من المواطنين تدشين حملة شعبية باسم «امتنان»، تُقدّم فيها الورود والدروع إلى الطبيب في مستشفى الأحمدي د. حسني عمر، والمسعفين، وكل من رفض تزوير تقرير وفاة المغدور «الميموني» الذي عُذبَ حتى الموت.
الحملة ستكون غداً الاثنين الساعة السادسة مساء أمام مبنى مستشفى الأحمدي. وكم نحن بحاجة إلى «حركات الجدعنة» التي افتقدناها في الكويت… شكراً يا دكتورنا الشهم، يا من لم يرهبه تهديد القتلة وأعوانهم.
***
الكذبة القميئة ذاتها تتكرر… كانوا قد اتهموا حضور ديوان الحربش بأنهم هم من بدأ بالتحرش بالقوات الخاصة قبل أن تعتدي عليهم، فضحك الناس قهراً وحزناً على وفاة الصدق، واليوم يدعون أن «البدون» هم من بدأ بالاعتداء على القوات الخاصة! متى يتوقف الكذب في هذا البلد؟ ومتى يحترم مسؤولوه إنسانية البشر وحقوقهم؟… عيب وحرام يا ناس.
كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء
يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة