خلونا نتفق من الآن أن على كل من يقدّم استقالته من النواب أو الوزراء أن يدفع «عربون»، أو «رعبون» كما يقول اللبنانيون، ويتسلم إيصالاً بذلك، يحتفظ هو بالنسخة الصفراء وتبقى البيضاء عندنا. إذ ليس من المعقول أن يحرر الصحافيون الخبر، ويكتب الكتّاب، وتتحدث الفضائيات، ثم بعد ذلك يخرج لنا المستقيل من خلف الجدار «بخ»! خلاص، من اليوم ورايح إيدك على جيبتك وهات عربونك واثنين شهود قبل أن تتقدم باستقالتك.
لكن بعيداً عن هذا، دعني «أنظّر» قليلاً و»أتفلسف» على مخك الكريم، وألتفت إلى الوطن العربي وأقول إن «الديمقراطية مثل حقيبة السامسونايت»، وإذا أعطيت طفلاً هدومك وطلبت منه أن يضعها في الحقيبة، فسيكدسها كيفما اتفق، وسيعجز عن إغلاق الحقيبة وسيتذمر من الحقيبة وصناعتها، في حين سترتّب أنت الملابس وتوزعها بذكاء في مساحات الحقيبة، فتتمكن من إغلاقها بسهولة، وهنا الفرق، فالحكومة البريطانية، مثلاً، استطاعت طيّ الهدوم وترتيب الحقيبة، في حين تشتكي حكومتنا ومستشاروها وكتّابها من الحقيبة، ويطالبون بإلغائها والعودة إلى زمن «شرشف المَهَرَة» (المَهَرة، ومفردهم مهري، هم فئة من الشعب اليمني، معروفون بالأمانة والصدق والبعد عن المشاكل، تخصصوا في بيع الملابس الشعبية التي كانوا يحملونها على ظهورهم في شراشف، ويدورون بها على مناطق ذوي الدخل المحدود).
والشعوب العربية صبرها من الطراز الأيوبي الفاخر، وحكوماتنا ترتدي عباءة الديمقراطية أمام الغرب وأمام عدسات المصورين، وما إن ينفض المصورون وينام الغرب، حتى تُخرج أسلحة الحكم الشمولي من تحت عباءتها وتطلق نيرانها على شعوبها، فتزور الانتخابات وتساعد هذا وتحارب ذاك، وتتلاعب بالقضاء، وتتعسف مع خصومها، وتغسل أيدي اللصوص وأبناء علي بابا، ووو، وإذا سألتها قالت لك: «كله بالقانون»، فتصبر الشعوب، وتحتمل وهي تمسح دموعها، فتتمادى الحكومات وتتجاوز الحدود الدنيا، فيثور الناس لكراماتهم، فتبدأ الحكومات الاستجداء.
والحكم في مصر الآن يتدلى من أعلى البناية، ويتمسك بالجدار بأطراف أصابعه، ويخفي ملامح الألم بابتسامة مزوّرة تظهره بمظهر «الواثق بأمر الله»، وفي كل خمس دقائق يرمي إحدى أوراقه، ويعزل هذا ويقرّب ذاك، إرضاءً للشعب، وهو ما يدل على أنه كان يعرف ما يرضي الشعب وما يغيظه، لكنه كان سادراً في غيّه.
على أن اللافت هو تشكيل الحكومة المصرية الجديدة من البقية الأحياء من «قوم نوح» الذين شاركوه، عليه السلام، في بناء سفينته، واستعان بهم الحكم الحالي ليعالجوا مشاكل الشباب، وليبنوا له سفينة تنقذه من الغرق في طوفانهم الغاضب… لكن معلش الطوفان قادم.
وقد أدرك طبّالو الحكومة هناك وراقصاتها أنها غارقة لا محالة، فأخذوا يتقافزون من المركب، كلٌّ بطريقته، فقد ظهر علينا أمس الأول أحد طبالي السلطة من الصحافيين، يزايد ويشتم العابثين بأراضي الدولة وأملاكها، وينتقد نظام «بي أو تي» ويطالب بإلغائه، وهو الذي كان يردح له قبل أيام! يا للهول، وخمسين يا للهول.
وحكاية نظام «بي أو تي» ذكرتني بالأراضي الممتدة التي استحوذ عليها ملياردير السلطة المعروف «هشام طلعت مصطفى»، المسجون بتهمة قتل الفنانة «سوزان تميم»، وأظنه الآن قد غادر مصر بعد أن تم تهريبه من السجن، كذلك ذكرتني حكاية «بي أو تي» بالعبث الذي يحدث، أو كان يحدث، عندنا في الكويت، قبل أن يتقدم الرئيس أحمد السعدون وكتلة العمل الشعبي بقانون يحلق شوارب اللصوص ويفسح المجال أمام المستثمرين الصادقين.
خلاص، دارت عجلة الشعوب، بعد أن استطعمت نكهة الحرية، وعسى ألا تقوم ثورتان لشعبين عربيين في وقت واحد، كي لا تسحب إحداهما أضواء الإعلام من الأخرى، أو تتعثر إحداهما فتؤثر على شقيقتها. بالدور يا شباب، اسحب «رقم» من الماكينة وانتظر دورك.
***
سنبدأ في الأيام القليلة المقبلة حملة تدعو إلى «استقلال القضاء»… إيدكم معانا. يا معين.