مر على النكبة ٦٦ عاماً، اختلطت فيها آلام اللجوء مع الكفاح والثورات وأحلام العودة. فالنكبة بصفتها عملية اقتلاع شملت مصادرة الأراضي والمنازل واحتلال المدن وتدمير مئات القرى وسط مجازر وتهجير جماعي ومنع السكان المواطنين من العودة تحولت الى أكبر صدمة عرفها العالم العربي منذ سقوط الدولة العثمانية ووقوعه تحت الاستعمار الغربي. لقد نتجت من النكبة تحولات مست العالم العربي من أقصاه الى أقصاه. فقد برزت الحركة القومية العربية بزخم في ظل الشخصية التاريخية لجمال عبد الناصر، ووقعت سلسلة الانقلابات العسكرية التي أتت بالجيوش الى عمق العملية السياسية العربية. وما أن واجهت القومية العربية التحدي الأكبر في هزيمة ١٩٦٧ في ظل فشلها في أبعاد اجتماعية وسياسية أخرى، إلا وورثتها شعبياً الحركة الإسلامية المعبرة عن قوى اجتماعية جديدة. ورغم تعقد مصادر القومية العربية والإسلام السياسي ورغم الأخطاء الجسيمة لكلا الحركتين إلا ان المسألة الفلسطينية مثلت مصدراً رئيسياً ومهماً من مصادر الزخم الذي أحاط بكل منهما.
ومنذ اتفاق أوسلو عام ١٩٩٤ ارتفعت آمال الفلسطينيين بإمكان قيام دولة فلسطينية واستعادة الأراضي المحتلة عام ١٩٦٧ سلماً في ظل حل يشمل القدس والضفة وغزة. مبدأ حل الحد الأدنى مع إسرائيل تحكّم بمرحلة ما بعد التوقيع على اتفاق أوسلو، وهذا بدوره عبر عن استعداد فلسطيني للقبول بما ينقذ ما تبقى من الأرض قبل ان تختفي في قلب الاستيطان والتهويد.
وفي خضم هذه المرحلة الجديدة التي بدأت في عام ١٩٩٤ وقعت عملية تهميش لأجزاء مهمة من الشعب الفلسطيني. فقد أصبح المواطن الفلسطيني، وفق واقع أوسلو الجديد، هو ذلك الفرد الذي يقطن في الضفة وغزة والقدس. أما فلسطينيو ١٩٤٨ القاطنون على الأرض التي قامت عليها إسرائيل ومستها النكبة بصورة مباشرة فقد أخرجهم مسار أوسلو من المعادلة بصفتهم مواطنين إسرائيليين (عددهم ١.٨ مليون)، ولم يعد يحق للسلطة الفلسطينية التحدث عن حقوقهم وقضيتهم التي هي جزء اصيل من القضية الفلسطينية.
كما وقع أمر مشابه في عملية التهميش مع فلسطينيي الشتات. فقد تم إلغاء دورهم وإخراجهم من المعادلة بحكم عدم موافقة إسرائيل على مبدأ العودة وحقوق اللاجئين.
وفي الوقت نفسه ارادت إسرائيل خنق الدولة الفلسطينية في الضفة وغزة في مهدها، وذلك لأنها اعتبرت أن الفلسطينيين يمثلون أكبر خطر على مشروعها الاستيطاني.
لهذا استخدمت إسرائيل سنوات المفاوضات لعزل القدس ومحاصرة السكان العرب البالغ عددهم ٣٠٠ الف مقدسي، وقامت بمحاربتهم في معيشتهم وأعمالهم وحقوقهم وانتقالهم، كما سعت الى تهويد القدس الشرقية مقتطعة أراضي من الضفة الغربية عبر توطين ٣٠٠ الف مستوطن إسرائيلي، كما قامت بعملية استيطان داخل أسوار البلدة القديمة. وفي ظل عملية ضم القدس الشرقية ومحيطها، قامت إسرائيل بعزل قرى ومناطق الضفة ومدنها.
إن فشل مشروع الدولة ليس فشلاً للقضية الفلسطينية بل بداية عودتها الى أصحابها، ويتضح بعد مرور ٦٦ عاماً على النكبة أن القضية الفلسطينية تمر بانتفاضتها الخاصة، اذ تقع فيها ثورة صامتة فريدة من نوعها مجالها الفكر وإعادة التفكير في الأولويات. ثورة الفلسطينيين ليست في ميادين وساحات الأرض الآن، بل إنها ثورة في الأوساط الأكاديمية والفكرية وعلى الأخص وسط فلسطينيي ١٩٤٨ حيث المعاناة القومية والإنسانية والتناقضات في أجلى صورها. فهناك يبرز مفكرون جدد طوروا فكرهم السياسي والفلسفي في جامعات اسرائيلية شتى منها الجامعة العبرية وجامعة تل ابيب بالإضافة الى جامعات أوروبية وأميركية مختلفة.
المدرسة الفلسطينية الجديدة تواجه بالرفض من الأوساط الصهيونية لأنها تطرح بقوة رؤى للمستقبل جوهرها وحدة الأرض الفلسطينية والدولة الواحدة من البحر الى النهر والتركيز على العدالة والمساواة والحقوق، وهذا يتناقض مع يهودية اسرائيل. هذا المشروع يطرح رؤى نضالية جديدة جوهرها حقوق الإنسان الفلسطيني ومساواته في كل فلسطين التاريخية من البحر الى النهر. ففلسطين بكاملها هي الأرض التاريخية والمكان الذي تسعى الحركة الصهيونية إلى مصادرته وهي الأرض التي يسعى الشعب الفلسطيني لتثيبت حقوقه التاريخية فيها. إن باحثين جادين ومتميزين من أمثال نديم روحانا من جامعة «تافتس» الأميركية ورئيس مركز «مدى» في حيفا، وبشير بشير ونادرة كفوركيان من الجامعة العبرية، وأمل جمال ورائف زريق من جامعة تل ابيب وآخرين يجتهدون جماعة وفرادى لتطوير هذه الرؤى الجديدة.
المدرسة الجديدة تحمل فكراً نقدياً للحركة الفلسطينية في وضعها الراهن، اذ يحثها هذا الفكر على الانسحاب التدريجي من مشروع الدولة في الضفة وغزة لمصلحة العودة للقاعدة الشعبية الفلسطينية: فلسطينو ١٩٤٨ وفلسطينيو الشتات إضافة إلى فلسطينيي الضفة وغزة والقدس بهدف استعادة زخم «حركة التحرر الفلسطينية» في كل الأرض الفلسطينية. هذه التجمعات في كل مكان تحتاج إلى مظلة شاملة تعبر عن نضالها ضد الصهيونية وضد عنصريتها، وتحتاج حتماً إلى إعادة إحياء حلم الحقوق والعدالة والعودة والأرض.
هذا الفكر الجديد يعرّف المشكلة الفلسطينية بصفتها حركة دائمة لشعب اصابته النكبة عام ١٩٤٨ ويخضع لتمييز عنصري وإبعاد دائمين، وليقاوم، عليه ان يركز على حقوقه ومساواته الكاملة في ارضه. وهذا لا يعني المقاومة المسلحة بل على النقيض أثبتت المقاومة المدنية قدرتها على التغيير والتأثير. وما هزيمة مشروع التهويد في قلب النقب منذ شهور إلا دليل على قدرات المقاومة المدعومة حقوقياً.
في الذكرى ٦٦ للنكبة: الفكر الجديد الذي يبرز بين فئة فلسطينية مثقفة تجيد لغة العدو وثقافته ودرست في جامعاته ومؤسساته، لا يتجاهل ما يقارب ستة ملايين يهودي ينضوون في ظل تصور قومي إقصائي ويقطنون الآن الأرض الفلسطينية. فبالنسبة إلى هذه المدرسة يجب ان يتفوق النضال أخلاقياً على الحركة الصهيونية عبر عدم تبنيه منطق طرد وتهميش مضاد ليهود فلسطين. المشروع العربي الجديد لا يحمل موقفاً سلبياً تجاه اليهودية او تجاه اليهود والمواطنين الإسرائيلين، لكنه يحمل موقفاً سلبياً تجاه صهيونية إسرائيل وتعطشها الدائم لمزيد من الأرض والتطهير والإستيطان. جوهر المشروع الجديد، الذي يجب ان يكسب مناصرين معارضين للعنصرية من كل الأوساط: الأنسنة والحقوق وإسقاط المشاريع العنصرية في ظل فلسطين واحدة من البحر إلى النهر.