مكونات الاستمرار وتناقضات الحالة الإقليمية الدولية
ما وقع منذ 2011 حتى لحظة سقوط حلب الشرقية سيبقي الكتلة السورية الأكبر من السكان، والتي عانت من التشرد واللجوء وحرب النظام ضد الشعب، مؤمنة بحقوقها كاملة غير منقوصة. إن نزاع النظام السوري مع أغلبية السكان في سوريا سيترجم من قبله لتغيرات ديمغرافية وحالة من الفصل والاعتماد المبالغ به على القوى الخارجية. بنفس الوقت ستستمر الكتلة الأكبر من السوريين في سعيها لتحقيق العودة والكرامة والأمن وخضوع النظام السوري لآليات المساءلة وخروج الأسد من السلطة. هذه الأهداف لن تتحقق في المدى المنظور، وذلك بسبب سياسة النظام من جهة وبسبب دعم روسيا بوتين له، وبسبب سيطرة ميلشياته وميلشيات الداعمين الإيرانيين على العديد من ساحات الحرب.
لهذا فإن كل استسلام أمام النظام سوف يعني عمليا القبول بنظام سوري ضعيف مرتبط بالخارج. هذا بحد ذاته انقلاب استراتيجي كبير من الصعب استمراره موضوعيا في السنة والسنتين المقبلتين. من المنطقي إذن الاستنتاج بأن الظروف ستدفع لصالح استمرار الثورة السورية. فالسيناريو الأكثر منطقية في سوريا مرتبط بإمكانية نشوء وضع أكثر تعقيدا من العراق بعد 2003. الحرب في سوريا لم تصل بعد للنهاية وهي في مكان ما في منتصف الطريق وما وقع في حلب سيؤدي لمعارضة مختلفة أكثر قوة وتنظيما واستقلالية.
لهذا فالمعارضة السياسية والمسلحة لن نختفي من المشهد، وذلك لأن الظروف التي أنتجتها لازالت قائمة. لكنها بحاجة لنقد تجربتها، وللسعي للاندماج بين فصائلها، وهي أيضا مضطرة لتأمين مصادر مالية مستقلة عن الداعمين. إن بناء وحدة بين حركة أحرار الشام وجبهة فتح الشام سيقدم زخما جديدا لمشروع المعارضة، فهو سيجمع قوى إسلامية ذات فاعلية كبيرة على الأرض. الإندماج قد يضع المعارضة المسلحة في خانة تهم الإرهاب بسبب علاقات فتح الشام( النصرة سابقا) بالقاعدة. لكن بعد حلب ستتحول أطراف أكبر من المعارضة المسلحة لمزيد من الحزم والراديكالية في رؤيتها وتوجهاتها تجاه القضية السورية، وهي بالتالي لن تهتم كثيرا لتهم الإرهاب طالما أنها لا تمارس عنفا خارج الأراضي السورية. في الجوهر فعنف المعارضة السورية يبدو صغيرا نسبة لعنف النظام والميلشيات المتحالفة معه. وقد يكون من نتائج التصورات الجديدة أن تتفادى المعارضة خوض معارك مسلحة مع الأكراد ومع داعش لصالح أطراف دولية أميركية وتركية. فالمعارضة السورية بحاجة لتكثيف قوتها في مواجهة النظام وحلفائه. هذا يعني بأن الشخصية المستقلة للمعارضة السورية قد تتطور من جراء ما وقع في حلب ومن جراء إمكانية نزول قطاعات من المعارضة تحت الأرض وإتباع وسائل حرب عصابات في ظل حراك شعبي طويل المدى.
سيبقى السؤال مفتوحا حول حدود الدعم التركي للمعارضة، فتركيا ربما تخلت عن حلب لصالح صفقة مع روسيا ولصالح قتالها الموجه ضد الأكراد والدولة الإسلامية، لكنها لازالت تريد سقوط نظام الأسد. لقد اعتبرت تركيا بأن الانسحاب الأميركي من الإقليم تركها مكشوفة الظهر من أكثر من جهة، كما أن موقفها من روسيا مرتبط بالانقلاب الذي كاد أن يطيح بحكومة أردوغان المنتخبة في الصيف الماضي، كما أن الوضع الداخلي التركي الكردي والتركي التركي قلق للغاية. كما أن موقف الولايات المتحدة وموقف الناتو من الانقلاب التركي لم يكن كما تتوقع تركيا مما دفعها للتحليق باتجاه روسيا. وقد تكون علاقة تركيا بروسيا مرحلية ومؤقتة، وهي كذلك على الأغلب، فالعلاقة الروسية التركية ستكون مرهونة بسياسات الرئيس الأميركي ترامب تجاه سوريا وإيران وروسيا وتركيا وتجاه الدور الأميركي في الشرق الأوسط. هذه الصورة لن تنضج قبل أواخر 2017 وبدايات 2018. وستكتشف تركيا بأنها دفعت ثمنا مضاعفا من جراء سقوط حلب، لكن ذلك ربما قدم لها غطاء كانت تفتقده، في النهاية ستضطر تركيا للدخول في عمق النزاع السوري الإقليمي. يبدو كل ما يقع على الحدود التركية تسخين لحرب أكبر.
في المرحلة القادمة ستخضع سوريا لحرب تحرير معقدة ضد النظام وضد القوى الإيرانية والروسية الداعمة له والساعية لحسم معركة سوريا ضد الشعب ولصالح نظام لا يمتلك إلا القليل من المكانة الدولية والشرعية الداخلية. ستكون سوريا عصية على الهضم طوال عام 2017 وستستمر وجوديا في قلب العاصفة العربية- الإقليمية- العالمية.