يجزم أحدهم أن الكرة الأرضية لا تدور! ويصر آخر على وصف من يقبل بأن تدرس ابنته الطب أو الصيدلة بأنه لا مروءة لديه! ويتحفنا ثالث بروايات المعجزات في تحويل الأسد إلى نعجة، وربما صفق الناس لآخر أخرج 26 جنياً من ظهر امرأة، وآخر شاهد الملائكة تحارب مع المجاهدين!
ما هو الهدف الذي يسعى لتحقيقه مشايخ وخطباء الكذب والتدليس والخرافات في الفضائيات – بل وحتى في منابر الجوامع والمساجد والحسينيات والمحاضرات – حين يجتهدوا في نسج الأباطيل والأكاذيب وبثها في المجتمع الإسلامي؟ ولماذا، مع شديد الأسف، تصل بضاعتهم الكاسدة الرخيصة إلى أكبر شريحة من الناس بدرجة أعلى وأكثر تأثيراً من المشايخ والخطباء والعلماء المعتدلين ذوي المنهج العلمي؟
هذا الفعل يهدف إلى التجهيل والإساءة إلى الدين والقيم من دون شك، ويصبح مادة من الدناءة بحيث يتلاقفها أتباع الطوائف المتضادين… فهذا سني متطرف جاهل سعى إلى نشر محاضرة أو مقطع «خرافي» لأحد خطباء الشيعة من فئة «الخزعبلات»، وهذا شيعي متطرف جاهل سعى إلى نشر محاضرة أو مقطع «خرافي أيضاً» لأحد خطباء السنة من فئة «الخزعبلات أيضاً»، ولربما دخل على المسار ذاته آخرون يدعون أنهم ليبراليون أو شيوعيون أو حتى ملحدون وكفار ليجعلوا من مادة خطباء الكذب، والتدليس والخرافات أسلوباً لإثارة النزاعات والصدام والطائفية بين الناس… والسؤال هنا: أليس مجدياً أن يعرف الناس أن هناك من يعتلي المنابر وهم أصلاً لا صلة له لا بالعلم ولا بالفكر ولا بالبحث ولا حتى بالقراءة؟ وهل كل ما هو مكتوب في كتب المسلمين، من الفريقين، من روايات وأحاديث ووقائع وغيرها، هل كلها صحيحة يلزم نشرها بين الناس، أو تلك القصص في مصارعة الجن والعفاريت أو حكايات ومرويات البطولات التي يظهر فيها ذلك الخطيب، بأنه رأى في المنام أنبياء الله ورسله وأولياءه وأكلوا وشربوا معه! بل وبعضهم وضع يده على كتف الخطيب «الحلمان» وعبير عطرها لايزال على كتفه؟ «تعالوا شموني» في مشهد هوليوودي لا نظير له.
في عالم «اليوتيوب» وأكثر… قنوات فضائية ووسائط تواصل إلكترونية ومواقع ومنصات «ديجيتال»، تعمل جاهدة ليل نهار على اصطياد ما يطرحه «علماء الأمة زعماً»، في محاضراتهم وخطبهم، ليلقوا بها في عقول وقلوب الآلاف من المسلمين، ولاسيما الناشئة والشباب، وليبدأ تأثير تلك الخزعبلات والأباطيل في الحياة اليومية… تسابق في النقل والنشر والترويج وصراع شديد بين الأطراف المتنازعة استناداً إلى قابلية الكثير من الناس لأن يحولوا عقولهم إلى «مكب نفايات» من دون قدرة على تمييز الغث من السمين، ومن دون استعداد لفلترة ما يتلقونه من خطباء ومشايخ تجارة الخداع والزيف والزور، بل حتى حين لا يجد مهندسو التسجيل والقطع والنقل والبث مادة فاعلة، فإنهم يبتكرون حيلاً جديدة أصبحت مكشوفة اليوم: فضائيات فاشلة تتعمد صناعة حوار «تمثيل» للإساءة إلى هذه الطائفة أو تلك، وأخرى تجلب لها شخصاً مجهولاً فتلبسه لباس مشايخ الشيعة أو مشايخ السنة ليقوم كل «ممثل» بدور الإساءة ولا مانع من الحلف باللات والعزى وهبل.
المتلقون هنا هم المسئولون! فتجار الدين أولئك إنما وجدوا في المجتمع الإسلامي فئة كبيرة، رجالاً ونساءً وشباباً من الجنسين، لديهم القابلية والبيئة الحاضنة لأن يستقبلوا كل رواية وقصة وحكاية وواقعة منسوبة إلى الإسلام ورجاله وتاريخه، أو لهذه الطائفة أو تلك، ليصدقوها ويقبلوا بكل ما فيها، وليس ذلك عن جهل في الغالب، إذ هناك فئات من المتعلمين والمثقفين وأساتذة جامعات، يشاركون أيضاً في نشر خطاب التجهيل السيئ المثير للظلامية، وخبث النوايا وسوء المنقلب… نعم، تصدى بعض العلماء الثقافة من كل المذاهب الإسلامية لهذه الظاهرة الخطيرة، إلا أن حجم وجهد وعمل الفريق المضاد المؤيد للأباطيل أقوى بكثير: مادياً وإعلامياً وشيطانيا.
من الواضح أن هناك حالة من الانتصار لخطاب الكذب على خطاب الصدق في المجتمع الإسلامي، وفيها من المخاطر على نسيج المجتمعات الشيء الكثير الذي لم يعد خافياً أو مستغرباً، وأتساءل، كما تساءل الإعلامي الأردني الزميل إسماعيل خوالده في ورقة عمل بعنوان «الكذب والتدليس في العالم الإسلامي»، أليس مستغرباً أن تنعقد المؤتمرات والملتقيات والحلقات النقاشية الداعية إلى رفض التطرف والتشدد والكذب ودعوات حماية الإسلام من مشوهات وسلوكيات مستمرة، وتجد ذلك المسئول المعني عن قطاع الشئون الإسلامية أو الشبابية والإعلام في بلد عربي ما فاغراً فاه، وعيناه تدوران في رأسه حين تسأله: «لماذا تعد وتخلف لماذا تتكلم وتكذب على نفسك قبل غيرك، وحتى وفي أجهزة إعلامكم من أنماط تقليدية وإلكترونية، لاتزال فوضوية جاهلية من تقليد وتشويه للحقيقة تملأ الكثير من المواد المتلفزة والمسموعة والمقروءة، فأين أنتم عنها؟» (انتهى الاقتباس).
وإذا اتفقنا أو لم نتفق على أن الهدف من ذلك الخطاب هو جعل الخداع والمراوغة والتدليس طريقاً لتجهيل الأمة، ولاسيما أولئك الذين يصدقون كل ما يصدر عن لحية أو مطوع أو عمامة مهما كان مضمونه، فإن تلك الأداة قد أسهمت بشكل مفجع في تجهيل الكثير من الناس! ولابد للمراجع وكبار العلماء وأجهزة الإعلام أن تتصدى لهذا الطرح البغيض الفتاك حتى وإن قامت عليهم القيامة باعتبارهم «يصطدمون مع أصنام لهم كأنصار يدافعون عن الجهل والعفن»، ولأن الظاهرة منتشرة بشكل كبير في المجتمعات الإسلامية، فهي التي تشغل مولدات الفتنة والغضب وإبقاء النار الطائفية مشتعلة، ليس من الغرب كما اعتاد الناس على القول، بل من أبناء البيت الواحد والدين الواحد والوطن الواحد أنفسهم… وهذا العمل مع استمراره، سيفتك بسلامة واستقرار الأوطان ويدمر نسيجها الوطني.