هناك بصيص نور يتوهج قليلاً من تلافيف الظلام القادم مع تدهور اقتصاد الدولة، كأن نقول إن المواطن، بصفة مجملة، يصبح أكثر حصافة وجدية في علاقته مع الدولة، وفي حياته وسلوكه الاجتماعي. من جهة “الدولة” أو السلطة ستخف السلبية واللااكتراث حين يعرف هذا المواطن بعض الأخبار عن حكايات الهدر والتلاعب في الأموال العامة، فلا يقول لنفسه “شعلي أنا”، أي لن يعنيني إن وقعت صفقة بمليارات الدنانير وفيها عمولات فلكية للوجوه المقررة في دفاتر العمولات والمناقصات الرسمية، أو لا، فالمهم أن راتبي مضمون ودعم “الماجلة” وبقية الخدمات مستمر! يفترض أن يفتح هذا المواطن عينيه محدقاً على مواقع الزلل الرخوة، وتصغر عنده بالتالي الذات النرجسية، بعد الحالة السلبية التي كان يحيا بها في الماضي، وهي نتيجة طبيعية (أقصد السلبية واللااكتراث) نحو الشأن العام والوضع الريعي في الدولة، فأيام البحبوحة، كانت السلطة تعطي هذا المواطن الهبات والمنح من باب سياسة شراء الولاءات وضمان الصمت، فيتبلد وعيه، ففي الكويت أو أي دولة يمكن أن تكون ثرية بصدفة الثروة الطبيعية لا تطلب الدولة شيئاً من المواطن غير الطاعة، فشعار “شيبون بعد” كان مهيمناً في علاقة الدولة مع الفرد، وهي علاقة حاكم ورعية، وليست علاقة تبادلية تقوم على أساس أن مصدر السلطة ذاتها هو إرادة الشعب، فالسلطة ليست بحاجة إلى المواطن، وبالتالي تتفرد بكل قراراتها، ولا تتوقع رد الفعل المحاسب المناسب.
في أيام العسر القادمة لا محالة وانقلاب الوضع الاقتصادي الريعي المريض، نبرة الرفض والمحاسبة يفترض أن تزيد عند المواطنين ولا تعد قاصرة على بعض النجوم الذين يدفعون أثماناً غالية من حرياتهم، وعلى السلطة التنفيذية توقع ذلك، وتوسع صدرها من ناحية، وتضرب على أيدي “ربع العمولات” وأعمدة الفساد، من ناحية أخرى، ولتقل لنفسها وللقطط السمان التي تربت في حضنها الدافئ: كفى، ما هبشتم وبلعتم من “حلال النفط” فلم يعد في خزانة الدولة بقية… كفى وعيب.
وحتى يسد باب الذرائع، حين يتململ البعض من سوء الوضع المعيشي، وقد يترجم سخطهم إلى أفعال خطرة، لابد أن تقدم السلطة قرابين الأضاحي لحكم العدالة، وهي ليست “أضاحي بريئة”، بل ذئاب بثياب الحملان، فتعليمات رئيس الحكومة بوقف الامتيازات فوراً للوزراء والمناصب القيادية صحيحة في جوهرها ومستحقة، لكنها ليست كافية، فالقضية اليوم أكبر من هذه الامتيازات.
من ناحية المواطن، سيعي أن الكارثة لن يحلها إذا وفرنا امتيازاً مالياً لوزير أو قيادي هنا أو هناك، حالة “الرخاوة” التي أملتها سنوات النعيم الماضية، انتهت ولن تعود للأبد، فلينتبه هذا المواطن على إنفاقه اليومي، فالنهم الاستهلاكي والبيوت التي تضج بالخدم وخدمات الخدم يصاحبهم “هوز” الماء بيد الخادم يغسل سيارات المعزب بعد طقس غباري قاس، وترك مكيفات الهواء تجلجل وأهل المنزل خارجه لم يعد مقبولاً، هو هدر لا يقاس بهدر الكبار حين يهدرون من المال العام، لكنه بحد ذاته أيضاً يعد “هدراً”، وهو دليل على غياب روح المسؤولية عند هذا أو ذاك من المواطنين، ومن ثم لابد أن يعيد هذا المواطن النظر بجل ما يقوم به، من هدر للخدمات المدعومة إلى الإنفاق اللاواعي على المولات والمطاعم بقصد التنفيس عن الروح في بلد يخنق البشر بحبال الملل والسأم… هنا لنعد للسلطة، التي يجب عليها أن تعيد قراءة حالة الرثاثة الاجتماعية هنا وحياة الخواء الروحي التي يحيا بها الإنسان في دولة “أنا آكل وأشرب” حتى لا ينقلب الإنسان المتململ على نفسه وعلى وطنه، بعد أن نفضت جيوبه، وأغلقت عليه منافذ الترويح. أيام مظلمة قادمة ولا نور غير نور العمل والعقل الحصيف… فانتبهوا يا سادة.