عندما وقعت «غزوة» سبتمبر الإرهابية في أميركا كنت قريباً منها، وكان من المفترض أن أصل إلى نيويورك وأغادرها في ليلة وقوع الجريمة نفسها، ولكن طائرتنا تم تحويلها، لسبب تقني، لمطار آخر، ولم أستطع بالتالي الوصول إلى نيويورك إلا بعد عشرة أيام، لأن الحكومة الفدرالية أوقفت جميع وسائل النقل الجماعي، من طائرات وقطارات وبواخر، وحتى الباصات، وأصبحت حبيس الفندق في مدينة تبعد عن نيويورك، محطتي التالية في طريقي إلى لندن، بأكثر من 800كلم، فلم يكن أمامي غير التلفزيون والقراءة، فاكتشفت أن عدد رحلات الطيران في الولايات المتحدة، في كل يوم، يبلغ 37 ألف رحلة، منها 6000 خارجية! وأن عدد رحلات الطيران في بقية دول العالم يبلغ ضعفي ذلك، وتطير على 50 ألف خط، منطلقة من 9000 مطار أو أكثر. وهناك في أجواء الأرض طائرات يتراوح عددها بين 8 آلاف و13 ألف طائرة في اي لحظة في اليوم، حسب الموسم، وجميعها يتحكم بها من خلال نظام «جي بي إس» GPS، الذي تمتلكه وتديره أميركا وتقدمه مجاناً للعالم، من دون مقابل، وذلك من خلال 24 قمراً صناعياً تغطي الأرض.
كما أدركت يومها مدى سلامة السفر بالطائرة، مقارنة بغيرها من وسائل النقل الأخرى، حتى السفر على ظهور الدواب. وكيف أن خوف الكثيرين من السفر جواً غير مبرر. فلو قارنا ضحايا السفر بالطائرات، في حال استبعدنا الأعمال الإرهابية، التي خربت فيها جماعتنا ما بقي لنا من سمعة ومحبة في العالم، لوجدناه يبلغ الصفر في كل السنوات.
والغريب أننا غالباً ما لا نتردد في الاستسلام طواعية لمشرط الجراح، وقبلها لطبيب التخدير، لنغيب عن الوعي ولتقطع أوصالنا وتوصل ثانية، ونحن بين الحياة والموت، ربما لثقتنا بتقدم علم الطب «الغربي»! إلا أننا عندما نركب الطائرة، الأكثر أماناً من مخدر «ناتيروس اوكسايد N2O»، أو مشرط الجراح، نصاب بالهلع، متجاهلين أن العلم الذي يسند الطائرة هو العلم نفسه الذي يسند الطب. كما أن التقدم التكنولوجي الذي طرأ على صناعة الطائرات في السنوات القليلة الماضية جعلها أكثر راحة ورفاهية وقدرة على مواجهة المطبات الهوائية والرياح العاتية، ولا ننسى ميزتها الأساسية وهي السرعة. كما يجب ألا ننسى أن بالملايين الذين يعملون كطيارين ومهندسي وملاحي طائرات، ومضيفي ومضيفات جو لم يكونوا ليختاروا هذه المهنة، بعد قضاء سنوات في دراسة وإتقان علومها ومهاراتها، لو كانت نسبة المخاطرة فيها أكثر من غيرها. وبالتالي من غير الحصافة الاعتقاد بأننا أكثر حرصا على حياتنا منهم.
وعليه، واحتراماً لعقول عشرات الملايين من صانعي الطائرات والمستثمرين في صناعتها، والعاملين فيها ومشغليها، فإن علينا ألا نخاف من السفر بالطائرات بعد اليوم.