منطقة الشرق الأوسط موبوءة بالحروب، حيث يبلغ معدلها أعلى معدل في العالم. وتبدأ الحروب بشكل نظامي، ثم تنزل لدرجة أصغر، لتصبح أهلية، بين فئة عرقية، أو دينية، أو مذهبية، أو قومية، أو غير ذلك، ثم تنزل إلى مستوى أصغر بين منتسبي الفئة ذاتها. وشيئاً فشيئاً، تصبح الحياة في خدمة الحرب، والاقتصاد اقتصاد حرب، والأثرياء أثرياء حرب، المهجرون والفقراء فقراء حرب.
منذ الحرب الأهلية اللبنانية في بداية السبعينيات والمنطقة لم تهدأ بالمطلق. بالطبع لا نذيع سراً بأن إسرائيل تمثل العنصر الأكثر إثارة للتوتر والقلق والحروب، ولكن هذا لا يكفي للتفسير، وإن كان يعطيه بعداً أوضح.
لماذا لا يفكر الناس في السلام؟ ولماذا لا يعطى السلام فرصة؟
المنطقة أمام مأزق خطير، لن تحله الحروب، بل يجب أن يوضع الجهد الأكبر للسلام. أقول قولي هذا دون الدخول في اللوم وتحميل المسؤولية لأحد، أو الخوض في طروحات طائفية أو عرقية، أو نبش كتب التاريخ القديمة، لإيضاح أن هذا الطرف مجرم بطبيعته ولا يمكن الوثوق به.
عندما أتجول في الدنيا الواسعة، أجد الناس قد مرت بتجارب ليست أقل منا، من تدمير وكسر عظم ورقبة، ولكن الأخطر هو أن تتحول عملية التصفية والقتل والتشفي إلى جزء من ثقافة عامة، وتصبح الدعوة إلى السلام والتفاهم والتفاوض عملية غير مقبولة بل مرفوضة. وتفرح هذه الفئة بدماء الفئة الأخرى، بينما نجد أغلب رافضي السلام بعيدين عن نار الحرب، ويدمنون سماع الأخبار التي تكذب عليهم، وتقنعهم بأن الأمور على خير ما يرام، ثم يتناولون عشاء ثقيلاً وينامون. أما الحالة المأساوية للبشر الذين يحترقون فهي بالنسبة إليهم مادة للحديث والتحسر على ما آلت إليه الأمة، وهي مادة تدفعهم إلى المزيد من الحرب، المزيد من النار، المزيد من الجثث المتفحمة.
كانت الحروب في أوروبا في القرن السابع عشر تسمى بمدتها، فهي حرب المئة سنة، أو حرب الثمانين سنة، أو حرب الثلاثين سنة، وأغلبها كانت حروباً دينية وعرقية من حيث الشكل بالطبع. حتى اضطر المتقاتلون إلى أن يجلسوا ويؤسسوا ما نعرفه اليوم بالدولة القومية أو الوطنية ذات السيادة. وهكذا برزت لنا مفاهيم عدم التدخل في الشؤون الداخلية، ومنذ ذلك الوقت بدأت الحروب تأخذ منحى آخر أكثر نظامية، فيها منتصر ومهزوم، وبهذا النمط دخلنا على الحربين العالميتين الأولى والثانية، والتي كانت منطلقاتها فاشية نازية عرقية عنصرية، واشتملت على مآس وإبادة جماعية غير مسبوقة. لذلك عندما تفككت يوغوسلافيا السابقة قبل ربع قرن وحدثت فيها الحروب العرقية الدينية، والإبادة الجماعية، لم تستمر الحرب للأبد، فأوروبا أصيبت بالهلع من احتمالية تكرار الحرب الثانية في وسط أوروبا، وكانوا يظنون أن ذلك لن يحدث أبداً، فبذلت ما بوسعها لإيقاف تلك الحرب.
ما يجري عندنا يعيدنا إلى القرن السابع عشر، فقد ضاعت الحدود، وتاهت الوجوه وضعفت، ولم تتضح الرؤية، بل غابت غياباً في الجسم والمعنى، أما بالنسبة إلى الغرب فنحن لسنا إلا “فخار يكسر بعضه”، ويعلمون أننا لن نستغني عنهم فنستورد السلاح والرأي منهم.
الدعوة للسلام لا تعني خنوعاً كما يتصور البعض، ولكنها دعوة لحقن دماء الملايين والجلوس للتفاوض والخروج بصيغ توافقية، خرجت فيها الكثير من شعب العالم.
مرة أخرى، أعطوا السلام فرصة، فقد هرمنا وتعبنا من الحروب، وليرحمنا ويرحمكم الله.