تاريخيا، نجحت الثورات الكبرى عندما قام الثوار بتغيير نمط ممارسة السلطة، وتمكين الجماهير من المشاركة فى السلطة، فف إنجلترا وفرنسا نجحت الموجات الثورية عندما انتقلت السلطة (والتى تعنى ببساطة صنع القرارات والسياسات التى تنظم شئون جميع قطاعات المجتمع بما يحقق المصلحة العامة وأولويات المجتمع)، من نمطها القديم إلى نمط جديد تماما، أي عندما انتقلت السلطة من يد فئة صغيرة (كانت تعمل لمصالحها الضيقة) إلى طبقات متعددة من الشعب (التى صارت تعمل لأجل فئات أوسع من المجتمع سياسيا واقتصاديا).
حدث هذا من خلال أمر أساسى هو إقامة المؤسسات التى كانت وظيفتها تقييد سلطة الحكام بالدستور والقانون، وحماية حريات الناس، وتمكينهم من المشاركة، وقد تم ذلك عن طريق قيام هذه المؤسسات بوضع سلسلة طويلة من المحفزات والعقوبات فى شكل قوانين وإجراءات وقيم وآداب عامة، فوظيفة المحفزات هى دفع الحكام والمحكومين إلى الالتزام بالمصلحة العامة للمجتمع ، والتقيد بالقانون والقضاء على الامتيازات، أما العقوبات فهى تردع كل من تسول له نفسه الخروج عن مقتضيات الصالح العام أو اختراق القانون أو التربح من الوظيفة العامة، وقد تم هذا الأمر نتيجة صراع طويل، وعادة ما تواجدت جبهتان، واحدة تقاوم التغيير وأخرى تناصره، ولأى تغيير ثمن يتضح في شكل صراعات وحروب أهلية وموجات ثورية متعددة.
وقد تطور الأمر تدريجيا حتى اتضحت معالم النظام السياسى الحديث بخصائصه الرئيسية المشتركة، وهى دولة المؤسسات الديمقراطية المدنية المنتخبة، والتى تمكن الشعب من المشاركة فى صنع السياسات التى تستهدف الصالح العام، فى ظل حكم القانون والمواطنة وبلا أي امتيازات لطبقة أو فئة، كما صارت سلطة الشعب لا يعلوها نفوذ أى مؤسسة غير منتخبة، كالمؤسسات العسكرية والقضائية والدينية، ولا يزال هذا النظام يتطور، فمع سيطرة الشركات الكبرى، تتطلع الشعوب إلى أنماط جديدة من الديمقراطية كالتشاركية والتداولية وغيرها.
فالأطر التاريخية والثقافية والجغرافية أدوار مؤثرة فى تطور الشعوب، لكن هناك دولا بدأت من حيث انتهى الإنجليز والفرنسيون، وتبنت ذات المؤسسات الديمقراطية دون المرور بثورات وحروب كبرى كما فى شمال أوروبا وكندا واستراليا ونيوزيلندا، وعندما انهارت نظم الحكم المطلق والعسكرى منذ سبعينيات القرن العشرين بجنوب أوروبا ثم بشرق أوروبا وجنوب آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا بنهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات، اختارت دولها نظام المؤسسات الديمقراطية المدنية المنتخبة، مع الأخذ فى الاعتبار أن تفاصيل كل نظام اختلفت من دولة لأخرى حسب الأولويات والتحديات، وأن النظام متطور كما أشرت، فهو ليس كجهاز الحاسب الآلى يستورد كما هو، وليس صنما غير قابل للتعديل، ولهذا تعمل العقول على تطويره ومعالجة الإشكاليات التى تظهرها الممارسة، فالديمقراطية عادة ما تصحح نفسها من خلال الممارسة.
ولذلك يمكن القول إن محددات نجاح الثورات تكمن في المشاركة الشعبية الواسعة، والقضاء على التمايز الطبقي والفئوي، وان الناس سواسية في الحقوق والواجبات.