عكس خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في الكونغرس الأميركي روح العزلة التي تعاني منها إسرائيل مصحوبة بروح القوة والتأثير في الساحة الأميركية. فإسرائيل لا تقوى سوى على أخذ مواقف متصلبة، خصوصاً عندما تعلم أن الدولة الكبرى (الولايات المتحدة) لديها مصالح مختلفة عن مصالحها وسياسات تنم عن خسائر كبرى تكبدتها في منطقة الشرق الأوسط في العقد الأخير.
إن إضطرار إسرائيل إلى تصعيد مواجهتها ضد الرئيس الأميركي من خلال الكونغرس يعكس مدى عمق مخاوفها من سياسات البيت الأبيض. فإسرائيل هي الدولة الوحيدة في إقليم الشرق الأوسط التي تمتلك السلاح النووي، ولهذا تقف بقوة ضد امتلاك ايران أو السعودية أو تركيا لمشروع قد يؤهلها لدخول النادي النووي، وهي تعتمد على الولايات المتحدة بدرجة كبيرة بحيث أنها لا تقوى على رؤية السياسات الأميركية تتناقض وتوجهاتها.
سعى خطاب رئيس الوزراء الاسرائيلي في الكونغرس إلى كسب ثلاث نقاط في الوقت نفسه: واحدة مع إيران يهدف إيقاف الإندفاعة الأميركية تجاهها، وأخرى مع الإدارة الأميركية (بتقوية نفوذ إسرائيل في الكونغرس) وثالثة متضمنة في كل سياسة إسرائيلية: دفاعها المستميت عن صهيونيتها المتضمن استعمارها المستمر لفلسطين واستيطانها للضفة وحصارها لغزة وتهويدها للقدس واضطهادها لفلسطينيي 1948. هذه الأهداف الإسرائيلية المتناقضة هي في جانب منها سبب للتوتر بين إسرائيل والولايات المتحدة، خصوصاً أن إسرائيل تهدف بإستمرار إلى جر السياسة الامبراطورية الأميركية إلى مواقعها وتوريطها في حال العزلة والعداء التي تعاني منها في العلاقة مع الشرق والعالم الإسلامي.
وتخشى إسرائيل من إيران النووية ليس لأنها مع السلم العالمي، بل لأنها لن تقبل التشارك مع دولة أخرى في احتكارها للنووي في منطقة الشرق الأوسط. هذا البعد المعنوي هو الأساس في الموقف الإسرائيلي. لهذا لو كانت المملكة العربية أو تركيا من يمتلك البرنامج النووي، لشاهدنا الموقف ذاته. ولا يهم نتانياهو مدى نفوذ إيران وقوتها في عواصم عربية عدة، فهو يعلم أن الصراع العربي – الإيراني هو الآخر استنزاف لطهران في المديين المتوسط والبعيد، وأنه سيأتي وقت تتراجع إيران عن تمددها (فهي ليست مستقرة في أي من العواصم التي تسيطر عليها). فموازين القوى ستتغير بين هذه الأطراف، ما قد يعيد إسرائيل إلى واجهة الصراع الأهم في منطقة الشرق الأوسط. ويعي رئيس الوزراء الاسرائيلي أن ايران والعرب والأتراك قد يكونون يوماً ما في جبهة مشتركة هدفها فرض تراجعات على إسرائيل واحتلالها.
وبينما تحدى نتانياهو الرئيس الأميركي باراك أوباما بخطابه في الكونغرس نجده في الوقت نفسه يزيد من اعتماد إسرائيل على السياسة الأميركية وتقلباتها. وفي هذا تناقض، لأن السياسة الأميركية ستجد طريقاً مختلفاً مع الوقت، وستبدأ تحسب مخاطر التحاقها الدائم بالقاطرة الإسرائيلية. إسرائيل في صراع طويل مع العالم العربي والفلسطينيين والعالم الإسلامي، وهذا بطبيعة الحال سيصل في أحد الايام إلى لحظات حرجة لن تكون لمصلحة إسرائيل.
ويمكن القول إن نتنياهو وحزب «ليكود» واليمين الإسرائيلي والرؤية الصهيونية لا تستبعد إمكان قدوم هذه اللحظة التاريخية، وما سعي نتنياهو في الولايات المتحدة إلا محاولة لاستباق المستقبل عبر عرض للقوة والنفوذ والتأثير.
استثارت كلمة نتانياهو الكثير من الأميركيين، كما وسعت دائرة التساؤل حول النفوذ الكبير للحركة الصهيونية في الكونغرس. وسبق لرئيس الوزراء الإسرائيلي أن دعم في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2012 المرشّح الجمهوري ميت رومني. عرض النفوذ هذا لم يمر بلا خسائر معنوية وسياسية، بل يصب في بناء وعي أميركي (وإن كان بطيئاً) بمدى سيطرة اللوبي الصهيوني على السياسة، وبمدى جرأة إسرائيل في ممارسة التدخل في الساحة الانتخابية وفتح معركة مع رئيس منتخب. هذا وضع يضفي على الديموقراطية الأميركية، خصوصاً ببعدها التمثيلي، حالاً هزلية تؤكد ما يقوله كثير من المراقبين عن أزمتها التي تؤدي إلى ضعف تمثيلها للمجتمع.
سيكتشف الشعب الأميركي أن الكثير من أبنائه قتلوا وأن أمواله بددت في حروب في العالم الإسلامي والعربي بسبب تحالف سار عكس التاريخ بين الدولة الكبرى وبين دولة صغيرة حاملة لمشروع استعماري وإجلائي لا يتناسب والقرن الحادي والعشرين. وسيكون هذا الاكتشاف بمثابة صحوة متأخرة لن تقع في المدى المنظور، لكن الأحداث وتناقض السياسات كما حصل أخيراً بين إسرائيل وأميركا ستكون قطعاً مكملة لعملية تراكمية طويلة.
وما الحركات التي تقود المقاطعة في الجامعات الأميركية، إضافة إلى حال النقاش حول إسرائيل المنتشرة هذه الأيام بين الجيل الأميركي الشاب إلا دليل على تغيرات مهمة تجاه الدولة العبرية، فالعداء لاستيطانها وتصلبها وسياساتها العنصرية في ارتفاع. هذا الإدراك يمس قطاعاً من اليهود الأميركيين الذين يشعرون بتناقض كبير بين فكرهم الليبرالي والإنساني وبين واقع دعمهم لوضع يزداد عنصرية وغروراً وعداء للحريات والقيم الإنسانية.
لقد تغير دور إسرائيل في العلاقة مع الولايات المتحدة خلال العقود الماضية، فلقد كانت لها مكانتها في الحرب الباردة، خصوصاً منذ حرب العام 1967 ضد الدول العربية وضد قيادة جمال عبدالناصر، لكن الدور الإسرائيلي اكتسب بعداً مختلفاً منذ نهاية الحرب الباردة في العام 1990، إذ لم تعد الحاجة الأميركية إلى إسرائيل بعد العام 1991 وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة هي نفسها قبل ذلك. وقد اجتهدت إسرائيل لإبقاء مكانتها في الساحة الأميركية منذ نهاية الحرب الباردة، لكن هذا الأمر لم يكن سهلاً.
لهذا جاءت أحداث 11 أيلول والحرب على الأرهاب التي أعلنها الرئيس السابق جورج بوش ثم غزو إدارته لكل من العراق وأفغانستان بمثابة هدية كبرى ساهمت في تفعيل دور إسرائيل كطرف مشارك وفاعل في ما يعرف بـ «الحرب على الإرهاب». فغضت واشنطن الطرف عن الكثير من جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين، خصوصاً اجتياحها الدموي لمناطق السلطة الفلسطينية في العام 2002، ثم تخلصها قتلاً من رمز مقاومتها ياسر عرفات في 2004. وفتح ذلك الباب لإسرائيل لاستيطان لا حدود له في كل مناطق فلسطين، خصوصاً في القدس والضفة الغربية كما فتح الباب لحروب متتالية على غزة وواحدة على جنوب لبنان في 2006.
لقد وجدت إسرائيل في «الحرب على الإرهاب» المعلنة منذ 14 عاماً دوراً جديداً لها، لكن هذه المرة في ظل تنسيق غير مسبوق بينها وبين الولايات المتحدة. ونجحت في جر الإمبراطورية الأميركية بذكاء واحتراف إلى موقفها وموقعها الاستعماري العدائي تجاه العالم العربي والإسلامي.
بعد 14 عاماً من «الحرب على الإرهاب»، تجد الولايات المتحدة أنها خسرت الكثير، وهي لم تتساءل حتى الآن عن مدى مساهمة تحالفها المفتوح مع إسرائيل وكل أشكال العدوان التي نفذتها بأسلحة ومعدات وخبرات أميركية في حدث كارثي بحجم 11 أيلول. وما زالت العلاقة بين السياسة الأميركية وتلك الاحداث غامضة للأميركيين وللعالم. ربما لم تتطور بعد الرؤى والمعارف لاكتشاف تلك العلاقة بين التحالف الاسرائيلي – الأميركي وبين هذا الحدث غير الإنساني الكارثي المؤسف. هذا هو السؤال نفسه بطريقة أخرى: هل من علاقة بين موقف الكثير من المسلمين من الولايات المتحدة وبين سياستها في دعم إسرائيل ضد القدس والفلسطينيين والعرب والمسلمين؟ نعرف من التاريخ أن النظرة الإيجابية والمحبة للولايات المتحدة متأصلة في تاريخ الشرق، وهذا واضح في بدايات القرن كما هو واضح في سياسات الملك عبدالعزيز آل سعود وأمير الكويت في ثلاثينات واربعينات القرن العشرين تجاه العقود النفطية مع أميركا على حساب بريطانيا. لقد وقع الكثير على مدى العقود مما دفع بموجات من الكراهية إلى أعماق العالم الإسلامي. وعلى الأميركيين أن يتساءلوا عن دور سياساتهم الكارثية تجاه الإقليم وتجاه الاحتلال والعدوان الإسرائيلي في كل هذا.
وفي النسخة الجديدة من «الحرب على الإرهاب»، نجد الولايات المتحدة مرهقة وأضعف من السابق، وغير متحمسة للتورط في الميدان، كما أنها تنسق في العراق مع إيران الساعية إلى المكانة النووية، بينما تخشى الولايات المتحدة في الوقت نفسه من النفوذ الإيراني في العراق وسورية واليمن وغيره. في هذا المشهد تناقض كبير يدفع بإسرائيل نحو مزيد من الخوف من المستقبل.
قد يلتقط الناخب الإسرائيلي في انتخابات الكنيست المقررة الثلثاء المقبل هذه التناقضات كلها، فيقرر أن يغير الاتجاه. والأغلب سنجد أن الناخب الإسرائيلي ضائع بين أحلام السيطرة والاستيطان والقوة والصهيونية ويهودية الدولة وبين حقائق الديموغرافيا والتغيرات التي لا تميل لمصلحة الاستيطان والاستعمار والاحتكار التسلحي بل والنووي. ستجد إسرائيل أنها في المأزق ذاته الذي مر خلاله الاستعمار القديم والبيض في جنوب أفريقيا والمستوطنون في الجزائر. إنه مأزق لا نهاية له إلا بالعدالة والحقوق.