طحنت حرب الثلاثين سنة أوروبا لسنوات طويلة حتى منتصف القرن السابع عشر دون نتيجة تلوح في الأفق، وبعد أن شعر المتحاربون بالإنهاك واللاجدوى قرروا الجلوس للتفاوض، كان المتحاربون يمثلون القوة الضاربة حينذاك، وهم الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وإسبانيا، وفرنسا، والسويد، وهولندا. ويبدو أنهم أدركوا أن الحرب هي أسوأ ما اخترعه البشر. أطلق على تلك المفاوضات المتناثرة اسم معاهدات أو سلام ويستفاليا، وتم إبرام ذلك الاتفاق سنة 1648. تلك المفاوضات أنجبت ما نعرفه اليوم باسم “الدولة القومية”، أو “الوطنية” لا فرق، وبالتالي فإن مفهوم الدولة التي نعيش في كنفها اليوم هو مفهوم مستورد بالكامل، وصارت شيئاً فشيئاً أساس القانون الدولي الذي نعرفه اليوم، وهي التي حددت معالم ومواصفات الدولة الحديثة التي ننتمي إليها اليوم، دولة ذات “سيادة” لا يسمح بالتدخل في شؤونها من جيرانها أو غير جيرانها، تحتكر القوة المادية وتبسط هيمتها على مفاصل الأمن، لديها شعب ولها حدود جغرافية. ذاك كان زمن واليوم نحن في زمن التحولات، فالسيادة المطلقة بمفهومها القديم أصبحت في حكم المنتهية، والتدخل في الشؤون الداخلية للدول أصبح مقبولاً ومطبقاً على أوسع نطاق. بل إن التدخلات العسكرية وما سمي لاحقاً بالتدخل الإنساني صارت جزءاً من العلاقات الدولية. وصارت الدول وبحكم المتغيرات الدولية تسعى بذاتها إلى التوقيع والمصادقة على اتفاقيات دولية تنتقص من سيادتها وتسمح بالتدخل في شؤونها الداخلية، لكنها ولأسباب سياسية مختلفة، تعلن شيئاً مخالفاً، ولا بأس في ذلك، حيث إن الواقع شيء آخر.
ويتضح أن المجالات التي فقدت فيها الدول سيادتها طواعية، تتفاوت بالدرجة وبالاتساع، وهي قد تشمل مواضيع مثل الرياضة الدولية، والعمالة والتجارة والطيران المدني والطاقة النووية وبالطبع حقوق الإنسان وغيرها كثير. ويبدو أن معالم المنظومات الدولية في تلك المجالات المختلفة آخذة في الازدياد لا الانكماش على حساب السيادة التقليدية للدولة، والتي لم تعد موجودة كما كانت في السابق، ولن يغير في الأمر كثيراً إن كانت الدولة تعلن خلاف ذلك، فالتعهدات قد أعطيت والاتفاقيات قد أبرمت.