التقيت بوزير الداخلية، نائب رئيس الوزراء، مرتين. الأولى في فترة الاحتلال، قبل ربع قرن في سفارتنا بالرياض، عندما كان يمثل وزارة الداخلية، وكنت أنا رئيسا، بحكم الواقع، للجنة الإعاشة التطوعية في منطقة الرياض. وكان اللقاء الثاني في مكتبه عندما أصبح وزيرا للداخلية، للمرة الأولى. وفي المناسبتين وجدت فيه رجلا جادا، مسكونا بهاجس الأمن، وتشغله كثيرا كيفية التعامل مع عتاة المجرمين.
ولكن دعني اخبرك يا معالي الوزير المحترم، ومن واقع قراءاتي وتجاربي، وكما ثبت علميا، أن مرتكب المخالفة الصغيرة اليوم، والذي لا نكترث كثيرا له، هو غالبا مجرم المستقبل. وان الطريقة الصحيحة للتقليل من الجرائم الكبيرة تبدأ من طريقة تعاملنا مع مرتكبي المخالفات الصغيرة.
فقد نجد مثلا ان من يقوم بالتدخين في الأماكن العامة كالمطار والمستشفيات، والذين لا يحترمون أنظمة المرور، أو يدفعون رشى للحصول على إجازة قيادة، أو يقومون بالبيع على الإشارات وغير ذلك، والذين لا يتم القبض عليهم غالبا، او لا نكترث كثيرا لمخالفاتهم القانونية، هم مصدر الخطر المستقبلي. فالمسألة لا تتعلق فقط بقدرة الوزارة على القضاء على هؤلاء ساعة تشاء، بل بما تخلقه جرائمهم الصغيرة Petty crimes من أشخاص اعتادوا على ارتكاب الجريمة، ومن الطبيعي تحولهم مع الوقت الى اقتراف الأكبر. فبائع الألعاب النارية، ممنوع استيرادها، على الطرق السريعة أو من خلال شاحنة صغيرة تقف داخل محطة وقود، يعلم جيداً أنه يرتكب عشر مخالفات في وقت واحد، وعدم إيقافه عند حده سيجعله ينتقل، بصورة تلقائية، الى ارتكاب ما هو أكبر، وهنا مكمن الخطر، وهذا مثال من اصل عشرات الأمثلة. ولكن ما نلاحظه أن جميع اجهزة الأمن مشغولة بالكشف عن مرتكبي جرائم القتل، وملاحقة مهربي المخدرات ومروجيها، وهذا أمر طبيعي، ولكن كما ذكرنا، فإنك إن اردت وطنا آمنا يصل لك وهو في وضع افضل، فالمطلوب منك، ومن وكيلك الكفء، التركيز أكثر على مرتكبي الجرائم الصغيرة، من خلال حملة تستمر عاما كاملا، يتم خلالها تكثيف توقيع المخالفات على مرتكبيها، والاهتمام بالقدر نفسه بسلوك رجال الأمن، وتفعيل دور المحاكم العسكرية وتغليظ العقوبات بحقهم، فهم القدوة، والحاجة ماسة الى مراقبة ادائهم، والتقليل من مخالفاتهم.
كما اثبتت أكثر الدراسات جدية أن هناك علاقة بين نسبة الجرائم الصغيرة المرتكبة وبين فساد الدولة السياسي والإداري، فكلما زاد الفساد زاد ارتكاب الجرائم الصغيرة.. والعكس صحيح.