يعد التسول أحد أقدم المهن التي مارستها المجتمعات البشرية عبر التاريخ، بدوافع متعددة، فبعض المتسولين قد يعتقد أنه يؤدي وظيفة مهمة وهي الدعاء للناس، وبضاعته التي يسوقها هي الدعاء المدفوع، بينما يرى البعض الآخر في التسول وسيلته للحصول على نصيبه العادل في المجتمع غير العادل الذي لم يوفر له الحماية اللازمة ضد العوز والحاجة، أو فشل المجتمع في تأمين العمل المناسب له ولأمثاله من المتسولين، حيث لم تتوافر الفرصة لممارسة مهنة منتجة، أو أن ظلم المجتمع من حوله هو ما ألجأه لما هو فيه، أو أنه يمارس هذه المهنة مكرها بما وراءه من مؤسسة متخصصة في تنظيم هذه الصناعة على مستوى المجتمع وغير ذلك من الدوافع.
وبشكل عام يعد التسول في عالمنا اليوم إحدى الصناعات العالمية التي تمارس بكثافة من خلال الاقتصادات غير الرسمية في العالم، خصوصا في المدن، حيث يوجد أيضا سوق العمل غير الرسمي، الذي تمارس فيه أشكال عديدة من المهن من بينها التسول، وغالبا ما تكون مجموعات المتسولين من المجموعات المستقرة في سوق العمل، حيث تمارس هذه الوظيفة طوال العمر، ولها كود معين للسلوك داخل سوق العمل.
ويمارس المتسول المحترف فنون التسول، من خلال مواهب خاصة تمكنه من التأثير في الآخرين لحثهم على العطاء بما يملكه من مهارات في اختيار المكان والتوقيت وطبيعة من يسألهم، ومن لا يسألهم، حيث يعظم من عوائده أو أرباحه ويقلل من تكلفته المتمثلة في الوقت والجهد الذي يبذله في عملية التسول. على سبيل المثال ربما يؤدي اختيار مكان ديني إلى حصيلة أكثر لأن الناس تكون أكثر استعدادا للعطاء عندما يكونون في موقف ديني ما، أو اللجوء إلى الأماكن المزدحمة، حيث تزداد احتمالات توافر أناس مستعدين للعطاء بصورة أكبر كلما زاد عدد الناس في المكان، من ناحية أخرى غالبا ما يحاول المتسول استثارة أول شخص لكي يعطيه لأن ذلك يستحث الآخرين على العطاء.
وقد يمارس المتسول المهنة بمفرده، أو بوسائل مساعدة، تساعد على عملية صنع قرار منح المتسول تعاطف الناس، كأن يتسول بطفل، أو بكلب أو بعاهة أو بالرسم على الأرض، أو إبراز بعض المواهب الشخصية في الغناء أو عزف الموسيقي أو الرسم… إلخ. غير أن الكتابات في مجال التسول تشير إلى أن الناس تكون أكثر استعدادا للعطاء عندما يمارس المتسول العملية وكأنه يؤدي مهنة مثل الرسم أو الرقص، خصوصا إذا كان ما يؤديه المتسول يستهويهم أو يثير انتباههم. وقد تتسبب بعض العادات في الخارج إلى التسول، على سبيل المثال غالبا ما يؤدي شرب الخمر إلى التسول في النهاية، ففي إحدى الدراسات عن الأسباب التي دفعت المتسولين للشارع في روسيا، أشار نصف المتسولين تقريبا إلى أن الخمر هي التي دفعتهم إلى الشارع، حيث بدأوا في الشرب، ثم انهارت حياتهم بعد ذلك.
غير أن بعض المتسولين قد يكون مشروع مجرم، أو قد يؤدي به التسول إلى الإجرام، أو يمارس الجريمة تحت ستار التسول، ذلك أن فقدانهم الأمل في أي يصبحوا عنصر إنتاج أو قيمة مضافة في المجتمع ربما يدفعهم إلى خلق مشكلات في المجتمع انتقاما لأنفسهم، من هذا المنطلق فإن المتسولين يمثلون عبئا على المجتمع الذي يعيشون فيه، حيث تصبح مهمة توفير فرص العيش الكريم لهم من خلال المؤسسات المتخصصة، أو توفير الوظائف اللازمة لاستغلال طاقتهم أحد أهم التحديات التي تواجه المجتمع، وهي مسألة ثبت أن جميع الدول فشلت فيها.
وقد ينظر إلى المتسول على أنه شخص فقير، غير أنه ليس كل متسول فقيرا، وبالطبع ليس كل فقير متسولا.
من ناحية أخرى فإن التسول لا يقتصر على الأفراد، فهناك مؤسسات تتسول الناس في صورة جمع صدقات أو هدايا، كما أن هناك دولا تتسول من الدول الأخرى للحصول على مساعدات إما في صورة منح نقدية أو عينية مباشرة، أو في صورة تخفيف أعباء مديونياتها أو تأجيل سداد هذه المديونيات التي تستحق عليها وغير ذلك. فالتسول ليس عملا فرديا أو مؤسسيا، وإنما قد يمارس أيضا على المستوى الدولي.
من الأخطاء الشائعة الاعتقاد بأن التسول يمارسه المتخصصون في الدول الفقيرة، حيث ينتشر المتسولون في كل الاقتصادات على اختلاف أشكالها، وإن كان احتمال كثرتهم يزداد مع انتشار الفقر أو اتساع تأثير الأزمات التي تلجأ الناس إلى التسول، غير أن التسول ينتشر أيضا في الاقتصادات المتقدمة والغنية. فمن يزور الولايات المتحدة يلاحظ انتشار هؤلاء في شوارع المدن الكبرى، وأيضا في لندن والمدن الكبرى في بريطانيا وكذلك باقي مدن أوروبا، وفي شنغهاي الصين تنتشر أيضا كل أنواع التسول.
وهناك من يفسر التسول على أنه أسهل خيار أمام البشر عندما يفشلون في الحصول على وظيفة تتوافق مع تطلعاتهم أو يشعرون أنها توافق تطلعاتهم، حيث يعد الحرمان الاقتصادي أو الاجتماعي أو حتى السياسي أحد الأسباب التي تؤدي إلى اللجوء إلى التسول، للاستمرار في التواجد في المجتمع، وقد ينظر المتسول لوظيفة التسول على أنها وظيفة أسهل من أي وظيفة أخرى في سوق العمل، على سبيل المثال قد تكون الوظائف الأخرى أكثر مشقة من التسول، ومن ثم فإن عملية المقارنة بين العائد والجهد المبذول في الوظيفة قد تجعل عملية المقارنة في صالح التسول، لذلك قد تبدو وظيفة المتسول جذابة للمتسولين في سوق العمل غير الرسمي. من ناحية أخرى، فمن معيار المقارنة بين الجهد وأجر ساعة العمل، قد تجعل وظيفة التسول أكثر جاذبية من كثير من الوظائف الأخرى الشاقة في سوق العمل غير الرسمي.
وينظر للتسول غالبا على أنه نشاط غير قانوني لما له من آثار سلبية على الاقتصاد، حيث يحول كتلة من قوة العمل إلى عنصر إنتاج خامل دون قيمة مضافة، حيث ينظر للمتسول على أنه يمثل عبئا على الاقتصاد لأن المتسول لا ينتج أي قيمة مضافة في الاقتصاد، حيث تصل مساهمته إلى الصفر في أغلب الأحوال، وغالبا ما يتحول إلى قوة خاملة في المجتمع عندما يجد أنه يحظى بتعاطف الناس معه، على الرغم من قدرته على العمل، ومن ثم يعيش هؤلاء على حساب رفاهية المجتمع.
أما بالنسبة لأموال التسول فإن درجة استفادة الاقتصاد منها ستعتمد بشكل أساسي على كيفية تصرف المتسول فيها، فغالبا ما لا يكون المتسول مدخرا، بمعنى أنه لا يذهب بأموال التسول لإيداعها في البنك حتى يتسنى تشغيلها في جسد الاقتصاد، وعندما يحدث ذلك فإن المتسول يساعد على زيادة التدفق الدائري للدخل من خلال زيادة الحقن الذي يحدث فيه من خلال إعادة حقن ما حصل عليه من أموال في دائرة الإنفاق. لكن الشواهد تشير إلى أن أموال التسول غالبا ما تتحول إلى أموال مكتنزة، ومن هذا المنطلق يعد التسول أحد مظاهر التسرب من التدفق الدائري للدخل، حيث يؤدي إلى أثر سلبي على الإنفاق على المستوى الكلي، فمن وقت إلى آخر تطالعنا الصحف ووسائل الإعلام الأخرى عن ثروات بعض المتسولين التي تم الحصول عليها بعد موتهم، وأن همهم الأساسي من عملية التسول كان جمع المال وزيادة مدخراتهم على حساب المدخرين الحقيقي في المجتمع.
وغالبا ما ينتشر التسول أيضا أثناء فترات الكساد حيث ينحسر النشاط الاقتصادي وترتفع معدلات البطالة، وعندما يفشل الفرد في الحصول على وظيفة أو يشطب من قائمة قوة العمل بسبب توقفه عن البحث عن العمل، أو تجاوز المدى الزمني الذي يؤهله للحصول على تعويضات البطالة فإن الفرص المتاحة أمام العاطل قد تتعقد حيث لا يجد بديلا أمامه سوى التسول. ولذلك ينظر إلى التسول على أنه يمثل أحد المؤشرات الاقتصادية، التي تؤشر إلى انتشار الفقر، أو البطالة أو التضخم، أو أن انتشار المتسولين يعكس عدم قدرة الاقتصاد على خلق فرص العمل اللازمة للجميع وضمان حد أدنى من الرفاهية لسكانه، ومع ذلك فإننا نجد أن التسول ينتشر في أكثر الاقتصادات كفاءة في العالم.
آخر مقالات الكاتب:
- اقتصاديات التعلم الإلكتروني
- تراجع النمو في سنغافورة
- ضريبة السلع الانتقائية في دول مجلس التعاون
- اقتصاديات التصويت في الانتخابات
- ماذا يحدث لفنزويلا؟
- «جاستا» وما أدراك ما «جاستا»
- ما مغزى الاتفاق الأخير بين الصين والسعودية؟
- هل هي بداية الانتكاسة لسياسات الخصخصة في العالم؟
- المخاطر الاقتصادية لقرصنة الأدمغة
- بالون ديون العالم .. إلى أين؟