منذ الربع الأخير من القرن الماضي وأسواق المال في العالم تتعرض لظاهرة العولمة، حيث أصبحت أسواق المال في معظم دول العالم سوقا واحدة، تتدفق فيها أموال المستثمرين من دول العالم المختلفة، وذلك نتيجة لتحرير تلك الأسواق وإرخاء النظم والقواعد الحاكمة لعملها، بحيث أصبحت أسواق معظم دول العالم مفتوحة للمستثمرين من جميع أنحاء العالم، وقد ساعدت زيادة المدخرات الناجمة عن ارتفاع مستويات الدخول على ذلك.
ففي الكثير من الدول تقصر أسواق المال عن استيعاب حجم المدخرات المتاحة للاستثمار في السوق، وهو ما يدفع بالمستثمرين نحو الخروج من نطاق السوق المحلي الضيق نسبيا إلى السوق العالمي، ولذلك ليس من المستغرب في الوقت الحالي أن نجد أن اهتمام المستثمرين لم يعد منصبا على مؤشرات أسعار الأسهم في أسواقهم المحلية، وإنما أصبحت مؤشرات مثل “داو جونز”، و”نيكاي” و”داكس” وغيرها من مؤشرات أسواق الأسهم العالمية محط اهتمام المستثمرين في جميع دول العالم.
لقد ساعد التحرير المالي على سرعة تدفق الأموال بين الأسواق وسيادة ذات الأسعار للأصول المالية نفسها في جميع الأسواق، لكنه أدى في ذات الوقت إلى تغذية عمليات المضاربة على تلك الأصول، نظرا لتحول اهتمام شريحة عريضة من المستثمرين إلى تبني استراتيجيات قصيرة الأمد ترتكز على معدلات العائد السريع، الأمر الذي يصب في سرعة تقلب أسعار الأصول مع تعريض الأسواق لمخاطر انتفاخ بالونات أسعار الأصول ومن ثم الأزمات. ففي الكثير من الأحيان قد يترتب على قرارات المستثمرين تسعير بعض الأصول بأعلى من قيمتها الحقيقية وبالشكل الذي لا يتوافق مع الحجم المتوقع من المعاملات التي تمثلها هذه الأصول، أو معدلات العائد المتوقع عليها، وأحدث الأمثلة على ذلك هي حالة طرح أسهم سلسلة مطاعم شيك شاك للاكتتاب.
“شيك شاك”، من شركات الوجبات السريعة الحديثة نسبيا، التي لم يمض على نشأتها سوى 14 عاما، وكانت في البداية عبارة عن ركن لبيع سندوتشات الـ”هوت دوج” في ماديسون سكوير بارك في مانهاتن بالولايات المتحدة، غير أن إقبال المستهلكين عليه مكن صاحب الشركة من افتتاح الفرع الثاني في غضون خمس سنوات، ثم أخذ الاسم التجاري للشركة في الاشتهار بصورة سريعة، حتى تحول إلى سلسلة مطاعم عالمية للوجبات السريعة، قدرت مبيعاتها في 2014 بنحو 100 مليون دولار.
عندما تم الإعلان عن طرح بعض أسهم “شيك شاك” للاكتتاب العام هذا العام كانت الشركة تستهدف أن يترتب على الطرح تحقيق قيمة رأسمالية للشركة تساوي 568 مليون دولار، من خلال الأسعار السوقية للأسهم بعد الاكتتاب، وقد خططت الشركة لطرح خمسة ملايين سهم فقط، مع فرصة بيع 750 ألف سهم إضافي.
في البداية كانت الشركة تتوقع أن يكون سعر الاكتتاب للسهم بين 14 و16 دولارا، ثم رفعت سعر الاكتتاب لاحقا بين 17 و19 دولارا، إلا أن زيادة الطلب أدت إلى رفع السعر إلى 21 دولارا، وبهذا تمكنت الشركة من جمع 105 ملايين دولار، وبهذا السعر للسهم تصبح قيمة السلسلة 745 مليون دولار، ووفقا لنشرة الاكتتاب، سوف تستخدم الشركة هذه الأموال في إنشاء فروع جديدة وتجديد بعض الفروع القائمة، كما أن الشركة تخطط لزيادة عدد فروعها في الولايات المتحدة بعشرة فروع سنويا، وتتوقع أن يصل عدد فروعها في العالم إلى 450 فرعا. وفقا لـ “فاينانشيال تايمز” أدى فتح باب التعامل على السهم إلى ارتفاع سعر السهم إلى نحو 47 دولارا، بنسبة 130 في المائة تقريبا، وهو أداء فاق جميع التوقعات، الأمر الذي ترتب عليه تضاعف القيمة الرأسمالية للشركة لأكثر من 1.7 مليار دولار.
هذا الإقبال الكبير على عمليات الاكتتاب عند طرح أي أسهم جديدة يعكس انفتاح شهية الشركات على عمليات الإصدار وهي تضع أعينها على مدخرات المستثمرين في العالم التي لا تجد فرصا حقيقية للاستثمار من خلال القطاع المصرفي. فمن المعلوم أن مخاطر الفشل في جمع ما يكفي من أموال المكتتبين دائما ما تكون مرتفعة، لذلك ربما تفضل الشركات القائمة خيارات الاستحواذ والاندماج على إصدار أسهم جديدة، مخافة فشل عمليات الطرح التي من الممكن أن تؤثر على القيم السوقية للأسهم، ومن ثم قيمتها الرأسمالية في السوق، لكن نجاح عمليات الاكتتاب في ظل الأوضاع الحالية وبصفة خاصة مستويات معدل الفائدة وأداء العملات والسلع يجعل عمليات الطرح جذابة جدا للشركات.
ففي عام 2014 يقدر أن هناك نحو 1200 عملية اكتتاب عام تمت في العالم، ترتب عليها جمع نحو ربع تريليون دولار، صبت في خزائن الشركات الجديدة والقائمة، وذلك من رصيد المستثمرين في العالم ومن مدخراتهم التي تبحث هائمة في بقاع العالم عن فرصة للاستثمار. ساعد على نجاح هذه العمليات معدلات الفائدة المتدنية وشبه الصفرية في معظم دول العالم مما يجعل الاحتفاظ بالأموال في المؤسسات المالية مثل المصارف مسألة مكلفة لأصحاب المدخرات، نظرا لأن العائد الحقيقي على هذه المدخرات يعد سالبا، قياسا بمعدلات العائد التي يحصلون عليها من الاكتتاب في الأسهم التي تظهر في صورة ارتفاعات كبيرة في الأسعار من أول يوم يتم فيه التداول عليها.
لكن السؤال المهم هو، هل تعبر هذه القيمة السوقية لسهم “شيك شاك” عن قيمة حقيقية لمثل هذا الأصل؟ أم أن هناك مغالاة في قيمته وأن تسعير السهم تم على نحو غير دقيق؟ تشير بيانات الشركة إلى أن أرباحها عام 2014 اقتصرت على 3.5 مليون دولار فقط، منخفضة بنسبة 20 في المائة عن العام السابق.
من ناحية أخرى فإنه أخذا في الاعتبار عدد فروع الشركة، فإنه بهذه القيمة السوقية للأسهم يصبح كل فرع قيمته الرأسمالية نحو 26 مليون دولار، وهي قيمة مرتفعة جدا مقارنة بالقيمة الرأسمالية لفروع السلاسل المشابهة، على سبيل المثال تبلغ القيمة الرأسمالية لفروع شركة ماكدونالدز نحو 2.5 مليون دولار فقط.
فهل هذه المغالاة تعكس بالفعل ارتفاع ثقة المستثمرين في صناعة الغذاء بالمستقبل، الذي يتوقع معه أن تكون صناعة الوجبات الجاهزة مزدهرة خصوصا في ظل تزايد السكان وتغير العادات الغذائية لهم؟ أم أن ارتفاع الإقبال على طرح “شيك شاك” يعد مثالا على تعطش المستثمرين على شراء الأسهم التي قد تتمتع بمعدلات عائد مرتفعة على الأجل القصير؟
لا شك أن مثل هذا النوع من الاستثمارات قد يترتب عليه مشكلة لحملة الأسهم في المستقبل لأن عملية الاكتتاب والسعر الذي تمت به والسعر السوقي للسهم غير واقعي، ولذلك فإن التحدي الأكبر الذي يواجه “شيك شاك” حاليا هو كيفية تأمين عمليات التوسع السريع لتحقيق معدلات عائد تتوافق مع تطلعات المستثمرين فيها، وإلا فإن القيمة السوقية سوف تتعرض للتراجع على نحو كبير مع قيام المستثمرين بالتخلص من الأسهم مع انخفاض معدلات العائد المحقق عليها. إذ غالبا ما يتبنى المستثمرون في مثل هذه الحالات استراتيجيات تعتمد على معدلات العائد في الأجل القصير، ومن ثم فإنه مع أول أداء سيئ للشركات المكتتب في أسهمها، تبدأ عمليات التخلي عن الأسهم في التزايد، وهو ما يؤدي إلى انخفاض أسعارها، محدثين بذلك تقلبات في معدلات العوائد الكلية على المحافظ الاستثمارية.
إذا كانت القيمة الرأسمالية السوقية لـ”شيك شاك” تزيد بالفعل على القيمة الحقيقية لها، فإن ذلك يعكس تزايد رصيد الأموال الجائعة للفرص الاستثمارية المربحة أيا كانت المخاطر المصاحبة لها، المهم هو معدلات العائد على المحافظ على الأجل القصير، لأنه عندما تنعكس تلك المعدلات فإن تعديلا سريعا سوف يتم على هذه المحافظ، لتلافي الآثار السلبية لهذه المخاطر، ولكن قرارات التعديل هذه تحدث آثارا كبيرة في استقرار أسواق الأصول المالية في العالم.
آخر مقالات الكاتب:
- اقتصاديات التعلم الإلكتروني
- تراجع النمو في سنغافورة
- ضريبة السلع الانتقائية في دول مجلس التعاون
- اقتصاديات التصويت في الانتخابات
- ماذا يحدث لفنزويلا؟
- «جاستا» وما أدراك ما «جاستا»
- ما مغزى الاتفاق الأخير بين الصين والسعودية؟
- هل هي بداية الانتكاسة لسياسات الخصخصة في العالم؟
- المخاطر الاقتصادية لقرصنة الأدمغة
- بالون ديون العالم .. إلى أين؟