ليس من الصعب على الإطلاق رصد التكرار المكثف لمصطلح «الفئة الضالة» في وسائل إعلام المجتمعات العربية والإسلامية، ومن السهولة بمكان عدّ المرات التي يتكرر فيها هذا المصطلح في خطب بعض الخطباء والمشايخ والدعاة، لكن لن تجد على الإطلاق تحديد نهج واقعي صحيح لكيفية معالجة هذه المعضلة… كيف؟
لقد اعتدنا على سماع وصف «الفئة الضالة» على الإرهابيين والمتطرفين والمجموعات المذهبية والطائفية التي تمارس على أرض الواقع أفعالاً تهدد استقرار المجتمعات، وإلى حد ما، ينطبق هذا الوصف على تلك الفئة، وعرضياً، قد يأتي استخدام ذلك الوصف على سياسيين ومعارضين أو قادة حركة مطلبية في أي مجتمع من المجتمعات بصورة (استهداف لا أكثر ولا أقل)، لا سيما إذا كان أولئك يعملون في وضح النهار وممارساتهم ظاهرة للعيان! وهنا يصبح الوصف رهن القبول من جانب فئة والرفض من جانب فئة أخرى، إلا أن المعضلة الرئيسية، خصوصاً في دول الخليج العربي، أنها تفتقد الرؤية والمنهج للتصدي لكل فئة متشددة تتلبس بلباس الدين في هيئة، وتمارس الفظائع والجرائم في هيئة أخرى.
وطرحت في هذا الشأن سابقاً، أنه لكي تواجه دول الخليج خطر «الفئات الضالة»، فعليها أولاً إثبات الاتهام بالأدلة القطعية، ومن ثم، لابد أن تكون صادقة وصريحة في تعاملها مع كل من يمول ويدعم ويساند تلك الجماعات، وفي مقدورها أن تفعل ذلك… لو أرادت.
الكثير من الباحثين والمهتمين بدراسة ظاهرة التطرف في الخليج والعالم العربي والإسلامي، يجمعون على نقطة مهمة في الحقيقة، وهي أن هناك متغيّراً مهماً لابد أن يضعه أصحاب الشأن في منطقة الخليج العربي، وهو الدعم والتمويل والمساندة الكبيرة التي تحصل عليها مؤسسات دينية واجتماعية ظاهرها خدمة الدين، وباطنها دعم الجماعات المتطرفة. فالمتغيّر الذي طرأ على مجتمعات الخليج هو التغير في دور المؤسسات المجتمعية وخصوصاً الدينية، فقد امتد دورها ليغطي مجالات حياتية متعددة رسمت مناهج تفكير وخلقت أنماطاً فكرية معينة تستند على التشدد والكراهية والطائفية، وجعل ذلك من أتباع ذوي التفكير السلبي ينفذون بكل سهولة ما يملى عليهم من دون تفكير وتبين، حتى أن تلك المؤسسات عملت على كسب شرائح من الأتباع المؤيدين لأفكار التكفير والتشدّد والعنف والحدة التي تصل إلى القتل ضد كل من يخالفها الرأي أو المذهب أو التيار. وهم يشعرون بالأمان لأن في فترةٍ ما، كانت «بعض الحكومات» تسهل أمورهم و»تسمّنهم» كركن أساسي لحكم المجتمع بالنفس الطائفي المدمر.
لذلك، فإن الميدان الأول لمكافحة التطرف والإرهاب هو ميدان الفكر، ولكون التربية ومؤسساتها المختلفة معنية بصناعة الفكر، وغرس القيم والاتجاهات، فإن ذلك يحتم الاهتمام بتطوير المؤسسات التربوية، لتتحول إلى مصانع للفكر المعتدل والناضج الذي يقود الوطن إلى شرفة التميز والإبداع، ويحتم التأكيد على أهمية قيم التماسك والتوحد في مواجهة تيارات العنف والتطرف.
وللأسف، لقد أخفقت الكثير من الحكومات في اعتماد هذا الأساس، فهي تواجه وتسجن وتطارد من جهة، لكنها لينة تماماً في التعامل الجدي لتغيير المناهج التعليمية السيئة، وإيقاف الخطاب الديني التكفيري المتشدد، وكبح جماح الإعلام الداعم للتطرف.
إن التصدي لمظاهر الضلال والإرهاب والتكفير والتشدد والتطرف، يتطلب دوراً أكبر للباحثين المعتدلين من الجنسين، بالإضافة إلى دور علماء الدين ذوي الاتجاهات الدينية المعتدلة بعيداً عن المتطرفين الذين هم حتى اليوم، يغذون فئة الشباب بالأفكار والمعتقدات الخاطئة التي تستهدف أمن بلادهم وأهلهم، وخصوصاً أن هناك إجماعاً على رفض هذه الممارسات من قبل ذوي الفكر المعتدل في المجتمع، غير أن ذلك لا يكفي، طالما تهاونت الحكومات في تطبيق القوانين على الأفراد والجماعات والأطراف المتورطة تورطاً حقيقياً، وفق ما تلزمه إجراءات التقاضي التي تضمن المحاكمة العادلة وعدم الاكتفاء بالإفتراء وفبركة التهم.
من الواضح جدًا أن هناك إعادة تدوير وإنتاج «الفئات الضالة»، ولربما تطلب الأمر إلحاق «فئات غير ضالة» في دائرة الاستهداف، ولكن لا يمكن أبداً قبول المعايير المزدوجة التي تتبعها بعض الحكومات التي تزعم أنها تكافح الفئات الضالة والمتطرفة والتكفيرية، وهي تغض الطرف عن أفعال كثيرة تراها أمامها وتعلم أنها مدمرة!
إن الكارثة تبدو واضحةً في الإدعاء الفضفاض ب التصدي للإرهابيين الذين يحصلون على الدعم والتمويل والتغطية والحماية من بعض الأنظمة، إقليمياً وعالمياً، وهذا، على سبيل المثال، سبب فشل تحالف دولي قرر توجيه ضربات جوية لـ «داعش» وأخواتها من الجو، وقرّر من جهة أخرى (وإن في الخفاء)، تمويلها ودعمها من الجو والبر والبحر.