"داعش" لم تنزل من السماء، هي ابنة لنا، بتعبير ذكي لأحد المغردين، لكنها ابنة غير شرعية، ولها عشرات الآباء من أم بغي تتخفى بيننا، وتتستر في بيوتنا، وفي مجتمعاتنا، وتتمدد بتاريخنا الذي لا يمكن الإفصاح بنقده، فقوانين القهر للسلطة الرسمية متمثلة بقوانين النشر والجزاء، وكذلك المحرمات والزواجر الأيديولوجية للمجتمعات العربية الإسلامية تمنع كلها هز أسس الفكر الداعشي، وبتر جذوره العميقة الضاربة في وجدان الشعوب العربية المحبطة.
من آباء "داعش"، ثقافة تاريخية تنضح بالتعصب للمذهب منذ أيام معركة صفين وإلى هذا اليوم، سماها طه حسين "الفتنة الكبرى"، لكنها ليست فتنة ولا يحزنون، بل صراع على السلطة، وعلى الشرعية الدينية، بمعنى من كان يمثل الإسلام الصحيح، والإسلام هنا الدولة، وليس الدين فقط.
هو صراع حدث قبل ألف وأربعمئة عام، ومازال يدفع أبناء الإسلام ثمنه من الدماء والرؤوس المبتورة.
ومن آباء "داعش" الغرب الاستعماري (بريطانيا وفرنسا) الذي قسم التركة العثمانية حسب معاهدة سايكس بيكو، في نهايات الحرب العالمية الأولى حسب مصالحه الاستعمارية، ولم يلتفت إلى مصالح شعوب المنطقة وقبائلها، ثم جاء الأب الأكبر الجديد، متجسداً بالعم الأميركي (الذي حرر بعضنا من بعض، مثلما حدث في تحرير الكويت، وتحرير البوسنة وكوسوفو من الداعش الصربي، في ما بعد) إلا أنه وقع، قبل ذلك حلفاً مقدساً مع أنظمة تسلطية في المنطقة العربية، لضمان استقرار تدفق النفط، واستغل حلفه معها في حربه الباردة مع الاتحاد السوفياتي، وخلق فرانكشتين الأميركي والمتحالفون معه من أنظمتنا ذلك الوحش كي يبطش بالسوفيات في أفغانستان، ثم لينقلب على صانعه في 11 سبتمبر، ويعود إلى منطقتنا، وهي أرض ميلاده الخصبة، ليتناسل بعدها تحت أسماء عديدة، وبأكثر من لقب. نسميه مرة بـ"الخوارج" الجدد، أو "الفئة الضالة" و"الإرهاب"… وألقاب الإدانات والفشل في العلاج الفكري "ببلاش".
ومن آباء "داعش"، وأوحشها، الأنظمة العربية بدولها الفاشلة حضارياً، التي قمعت كل صوت مخالف ووطدت الفساد، فلم يجد البؤساء والمحرومون غير الدين والمذهب والقبيلة للتعبير عن السخط الاقتصادي والاجتماعي ضد النظام القمعي العربي الاستغلالي. ومن يتصور أن أنظمة الثورة المضادة التي ضربت الإخوان المسلمين، مثلاً، ستقمع بذور "داعش"، فهو واهم، فمن رحم تلك الأنظمة سيولد مئات "الدواعش"، فقط اقرأوا التاريخ، وكيف جاءت جماعات التكفير والهجرة وغيرها، بعد إعدام سيد قطب منتصف الستينيات من القرن الماضي، وبعد قمع الإخوان أيام الحكم الناصري.
كان هناك في ذلك الوقت، غطاء قومي، ومهما كانت قسوته إلا أنه كان ينشر بصيصاً من الأمل في أمسنا، وحين هزم وانكسر "القومي العربي" جاء "القومي الديني" ليملأ الفراغ.
آباء داعش وسلالتهم الطاعونيون يحيون معنا الآن، في منازلنا، في شوارعنا، في مدارسنا، في وسائل تعبيرنا… هم في كل مكان بقمامة التاريخ الحاضر، ولا يمكن القضاء عليهم بطائرات "الدرون" و"الفانتوم"، وإنما بالعدل في الحكم، وبالفكر الحر الناقد لكل المحرمات السياسية والاجتماعية.