صور الفنانة حورية سامي، الله يذكرها بالخير، على شاشة التلفزيون أيام الستينيات ماثلة أمامي، فهي "كومبارس ردادة" إذا كانت هناك وفرة في الصوت النسائي للأغاني الكويتية، ثم تصبح مغنية "سولو" إذا عانى التلفزيون ندرةَ المغنيات، ثم تعود، مرة أخرى "كومبارس" حسب الظروف، وتظل تتنقل بين مهام الكومبارس إلى وضع مطربة الشاشة المنفردة حسب الظروف.
وزراء الدولة، لا يختلفون عن وضع الفنانة حورية سامي، فالمرشحون للوزارات، يظلون في مستودع ذاكرة أهل القرار من شيوخنا دائماً، يتم اختيار بعضهم اليوم، ثم يُستغنَى عنهم في تشكيل وزاري آخر، ثم يعود هؤلاء إلى الواجهات الوزارية في تشكيل جديد، وتعاد دورة تبديل الكراسي من وزير احتياط يجلس بهدوء وترقُّب في صالة منزله منتظراً مكالمة تلفونية تستدعيه، مادام من فرقة المرضي عنهم، ولا يصدّع رؤوس الكبار، ولا يبارح منطقة "الموظف الكبير"، بمسمى وزير لينتقل في ما بعد، حسب حظه، من حالة الاحتياط إلى حالة الوزير الفاعل بسلطات الموظف الكبير المحدودة، وتظل حركة "ري سايكل" للوزراء (إعادة التدوير للمنتجات الصناعية) مهيمنة على عقيدة أصحاب القرار، ويبقى الوزراء، ومَن في حكمهم، يراوحون في مكانهم الثابت، دخولاً وخروجاً من الوزارة عبر بوابة "رفولفر" في قصور شيوخنا الكرام، بالوجوه ذاتها، وبالفكر السابق ذاته، لا يتغيرون، فمستودع الاختيار بنموذج قانون حورية سامي، يبقى على حاله مهما تغيرت الظروف وتحديات الدولة.
وعلى هذا لا نستغرب ذلك الإقرار من أهل التخطيط بأن خطة التنمية الأخيرة فشلت، ولا يقبل التعذر بطول الدورة المستندية مثلاً، أو غير ذلك من أسباب لا تشير بإصبع المسؤولية مباشرة إلى علة الديرة وداء الدولة المزمن منذ عقود طويلة، التي تقول إن الخطة فشلت لأن مَن أشرف على وضعها وعجز عن تحقيق أغراضها هو ذاته فاشل، وعاجز عن مواجهة الواقع وتحدياته، فمادام "قانون حورية سامي" لا يتمثل في اختيار الوزراء فقط، بل في اختيار معظم المسؤولين في مؤسسات الدولة كذلك، مع بقائه على وضع "يارب لا تغير علينا"، فلا جدوى من كل الأحاديث المنمقة عن خطط التنمية ووعود الغد، فليست تلك النهاية سوى أحلام يقظة عند الواهمين بقدرة الإدارات السياسية الحاكمة على نقل الدولة من هذا الحال المتردي.
لنقر بأن المصيبة تتجذر في أشخاص القياديين وفكرهم المفلس من الحدود الدنيا للثقافة والعلم الإنسانيين، وعجزهم عن المبادرة الخلاقة والتجديد الأصيل في الإدارة، هم، لا أحد غيرهم، مَن خلق هذا المرض المزمن في الدولة، بكل ما يمثله من رخاوة في تطبيق سيادة حكم القانون، وانتهاك حقوق الأفراد وحرياتهم، إلى تدهور مؤسسات الدولة وخدماتها في الصحة والتعليم، والأمن وغيرها.
ونتأمل بحسرة وحزن سوء الحال المتجسد في كل مرافق الدولة من مطار بشع وخدمة نقل تافهة، إلى مرور خانق، ومستشفيات ومراكز صحية في حالة يرثى لها في الإدارة، ولو وجد فيها أفضل الأطباء، إلى مدارس ومناهج تعليمية متكلسة تدار بفكر القرون الوسطى وتشكل وصفات ممتازة لتخريج كوادر "داعشية"، وجيل رخو متواكل على عمل الغير، هو جيل شبابي ضحل الوعي الاجتماعي والسياسي، وهو نتاج حتمي للحالة الريعية في الدولة، أما القلة الواعية منه فهي إما في السجون، أو مهدَّدة به، لأنها سرحت بتغريدة أو تظاهرت دون الموافقة المباركة من السلطة، وهناك "فيض من غيض" متمثل في أزمة مرور خانقة، إلى غلاء غير معقول للأراضي السكنية، وهناك المشروعات المتوقفة المنسية من استاد جابر إلى مستشفاه إلى جامعة الشدادية، وقوائم النسيان واللامبالاة السياسية طويلة ممتدة، تتوه في دهاليزها ذاكرة الحسرات، ويكاد يكون عدها وحسابها ضرباً من الخيال.
وتبقى أحوال الفشل والفساد على حالها، أبوابها مشرعة، للطامحين المقربين مع تهميش للغير وقضايا الغد، ويصبح المستقبل مجهولاً تغشاه وساوس القلق و"اللا يقين" والخوف على مستقبل وحلم الأجيال، مادامت تلك الجماعات المستفيدة تنظر إلى الدولة كما ينظر أصحاب المخيم إلى مخيمهم بعد انتهاء وقت التخييم الربيعي، فهذا له الثلاجة، وذاك سيأخذ خيمة الجلوس، بينما قبض الآخر الملايين واستثمرها في الخارج وضمن مستقبله ومستقبل سلالته من بعده قروناً قادمة، إن لم يكن حرز عليها في "كبت أمه"، وتُرِكت أرض المخيم يباباً مهجوراً، إلا من أكداس قمامة مهملة، يتحلق حولها أطفال الغد، يجلسون من غير غطاء خيمة يظلهم من وهج شمس الصيف الملتهبة، فقد طارت، بالأمس، الطيور بأرزاقها، فهذا هو قانون حورية سامي، وهذا دستور مخيمات ربيع القلة الشطار.