لم يكن، في يوم من الأيام، احترام الدولة الكويتية وثقلها في المجتمع الدولي راجعاً لثرائها ولا لحجم إنتاجها النفطي أو غير ذلك من الأسباب، فلم تكن هناك أي ميزة لهذه الدولة عن غيرها من دول الجوار بالمنطقة، سوى دستورها وما يقرره هذا الدستور من مبادئ الحريات وما يفرضه من الحدود الدنيا لديمقراطية مقيدة بسلطات أسرة الحكم، ديمقراطية تخلو من معيار تداول السلطة وتحرم الأحزاب وتفوض السلطة التنفيذية التي كانت دائماً تحت هيمنة الأسرة الحاكمة بسلطات "واقع" ممارس بعيد عن نصوص الدستور.
أياً كان الوضع السياسي بالكويت في سالف الأيام، من محدودية هذا الواقع الديمقراطي إلا أنه تصدق عليه مقولة "مفتّح بين عميان".
هذا الاستثناء الكويتي لم يعد قائماً اليوم، وأصبحت الدولة "عمياء بين عميان" ليست من أفضل من شقيقاتها الخليجيات، ولا تتميز عنها بأمر ما، وإن تميزت عنها في مضمار التنمية الاقتصادية ونوعية الخدمات التي تقدمها تلك الدول لمواطنيها، أصاب الدولة هذا "العمى" منذ لحظة حل مجلس 2012 الأول، وما أعقبه من فوضى انفراد أسرة الحكم بتسيير مقادير الدولة دون رقيب. بطبيعة الحال، لا يعني ما سبق الحل الأول لمجلس 2012 أن الدولة، كانت تحيا "يوتوبيا" الديمقراطية، وكانت واحة للحريات، فقد كان الوضع العام، وبالتحديد، مع عمر ذلك المجلس القصير، صورة من "شعبوية" الأكثرية، وجهدت تلك الأكثرية لفرض رؤيتها المتزمتة من خلال بعض مشاريع القوانين التي تناقض الحد الأدنى لحرية التعبير، إلا أنه يحسب لذلك المجلس بعمره القصير، وقوفه بصلابة لقضايا الفساد المالي وجرائم استغلال النفوذ في الدولة، ومحاولاته للحد منها، ويدفع، في هذا الوقت، رموز ذلك المجلس المنحل ثمناً غالياً لتك المواقف الصادقة.
الآن، تحيا الدولة بعتمة قاتمة لحريات الضمير، فقد أصبح أمراً عادياً أن نطالع خبراً، بين يوم وآخر، عن حبس مغرد حبساً احتياطياً وحجز حريته، وتمديد فترات الحبس دون حكم القانون، حين "يتناسى" أصحاب السلطة الضبطية إحضار المتهم بجرائم الرأي في الوقت المحدد أمام المحكمة للنظر في أمر حبسه الاحتياطي.
وتحت ذرائع واهية مثل "الأمن الوطني، المصلحة العليا للدولة، النظام العام، المساس بالثوابت الدينية"، وغيرها من عبارات "الغموض الاستبدادي" التي تحفل بها قوانين الدولة، وهي قوانين "دراكونية" لا أكثر، خلقتها السلطة بداية، وتعذرت بها لمصادرة الحريات السياسية للمعارضين، أضحينا في هذا الزمن الكئيب في جحيم الشك واللايقين من كل كلمة تسطر على شاشة تلفون أو آيباد أو كمبيوتر، وما يترتب عليها من احتمال ترويع أصحابها وفق مزاج أهل السلطان.
قضية اليوم لا توجز في احتجاز كاتب ساخر من مرارة الوضع بالدولة، كأن يكون مغرداً له "كاريزما" (تعبير محطة بي بي سي عنه) قوية في عالم "تويتر"، مثل محمد العجمي (بوعسم)، بعد أن وجدت السلطة ضالتها في اتهامه بازدراء الدين، حين أصبحت هي أكبر مشايخ السلفية والمدافع الأعظم عن الأحاديث النبوية، أيا كانت قوة إسنادها أو تعارضها مع مقاصد الشرع، فالكثيرون يدركون أن جريمة "بوعسم" هي نقده لفقهاء السلطان لا أكثر، لكن ليس بيت القصيد "بوعسم" ولا غيره من الشباب القابعين في السجون، لمجرد أنهم عبّروا عن فكرهم بجمل بسيطة محدودة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وليست القضية الآن محدودة بسحب جناسي مواطنين معارضين، تحت بند النصوص الاستبدادية الغامضة، محور الألم اليوم والقضية هي البحث عن إجابات عن أسئلة من شاكلة ما إذا كنا قد وصلنا للقاع في قضايا حقوق وحريات الإنسان، أو مازالت ممرات الغرق أسفلنا عميقة! وماذا بقي من رصيد الكويت وسمعتها في المجتمع الدولي!
وهل نحيا اليوم في دنيا رواية أورويل 1984 بشعارها المخيف "الأخ الأكبر يراقبك"، بعد أن أضحت دولتنا "ليست استثناء للحال العربي والخليجي"، بل تجسيداً لهذه الحال المزرية، يا خسارة..