تسير سلطة الحكم حثيثاً لابتلاع ما تبقى من أشلاء شبه الحالة الديمقراطية الكويتية، أسميها "شبه" الحالة الديمقراطية لأنه لم تكن لدينا يوماً ما -حتى في أيامنا الحلوة من منتصف الستينيات حتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي تقريباً- ديمقراطية صحيحة، فلا تداول للسلطة، ولا أحزاب سياسية، ولا مشاركة سياسية للمرأة بالبداية، كان كل ما لدينا أن شيوخ الأسرة الحاكمة يقررون، بحكم العادة بعد مشاورات مع النافذين السياسيين الذين كانوا يجلسون على المقاعد النيابية، وتصدر القوانين بعد ذلك، وكان يستحيل أن تشرع تلك القوانين ما لم تكن قد أسبغت عليها المباركة المشيخية، فالشيوخ كانوا دائماً لهم حق "الفيتو"، ولم تكن الضوابط الدستورية في مسائل حقوق الإنسان، التي نص عليها في الباب الثالث من الدستور، ذات أهمية عند تشريع القوانين أو في تنفيذها، ولم يكن مبدأ الفصل بين السلطات حقيقياً ينبض بالحياة على صعيد الواقع، كانت هناك نصوص دستورية عامة هي ديكور شكلي لاستكمال شكل الدولة دون معنى جوهري.
الآن، وبعد المجلس الأول الذي حل قبل عامين، انتهت تماماً حالة "الشبه" ديمقراطية، هناك لابد من التوقف لملاحظة أن ذلك المجلس مارس استبداداً "شعبوياً" حين انتشى بظاهر حالة الأغلبية في تشكيله، ولم يراع حقوق الأقلية، وحاول صبغ الدولة باللون المذهبي الديني، لكن يبقى في النهاية، أن نقول إن ذلك المجلس كان ممثلاً للمجتمع الكويتي بكل علاته وبكل التشوهات التي طرأت عليه (تشوهات وعاهات بفعل فاعل)، وانه، رغم ذلك، كان "يفرمل" كثيراً لممارسات السلطة، وقام عدد من النواب بفضح قضايا فساد ورشا كبيرة كانت تنخر في جسد الدولة، ولم يكن لنا أن نتصور مثلاً أن قضايا سحب وإسقاط الجنسية يمكن أن تحدث بتلك الصورة المرعبة (أشدد على تلك الصورة) في ذلك الزمن، كما يجري أمام أعيننا الآن، إلا أنه، من الناحية الأخرى، لم تتوقف يوماً ما أوبئة الواسطة والمحسوبيات في التعيينات أو توزيع حصص "الهبش" في مؤسسات الدولة وتوابعها، فدولة الموظف العام الريعية المستبدة وأمراضها كانت على حالها تسير بتكاسل ولا مبالاة لمصالح وحقوق الناس، ولم يحد من تصاعد جرائم استغلال النفوذ، لكن في كل الأحوال، وبكل أسى يمكن القول إن ذلك المجلس كان يمثل "العوض ولا القطيعة".
الآن أهيل التراب على قبر "الشبه ديمقراطية الكويتية"، فلا رقيب، ولو محدود الإمكانية، لممارسات سلطة الحكم، ولا يشفع لمجلسها النيابي اليوم أن يتذرع بإنجازه العديد من القوانين، أهمها قانون دعوى عدم الدستورية المباشرة، الذي أول من طرحه النائب السابق عبدالعزيز المطوع في مجلس 96 -ولا أحد يذكره له اليوم- فالعبرة في النهاية ليست بكثرة التشريعات، وبشكلها الحضاري، وإنما بالممارسة على أرض الواقع الحي.
وأخذت سلطة الحكم تمارس سلطانها من غير حدود، فنصبت منصات مشانق سحب وإسقاط جناسي مواطنين، وتحججت بأنها تحيي قانوناً نسيته في أدراج قديمة، هي بالطبع أدراج الاستبداد السلطوية، وتعد العدة للرقابة الكاملة على الإنترنت، كما أنها تستكمل هيمنتها الكاملة على "شبه" مؤسسات المجتمع المدني من جمعيات النفع العام، التي كانت تحت سلطانها منذ البداية، إلا أنها اليوم، وتحت حجة وثيقة العمل بين وزارة الشؤون وجمعيات النفع العام، (مانشيت جريدة الجريدة عدد الأربعاء) تستكمل السلطة مشوار الابتلاع الكامل لتلك المؤسسات، فماذا بقي من "شبه الحالة الديمقراطية" التي كانت تتباهى بها الكويت أمام شقيقاتها الخليجيات، هي اليوم حالها من حالهن، ولا أحد أفضل من أحد والسلام.