تحلم جهات عدة منذ عقود في أن ترى دولة إسلامية واحدة تجمع كل المسلمين تحت «راية» الدين. واصبح حلم البعض أكبر، وخاصة من الحركات الدينية الأكثر راديكالية وتسليحا، في أن ترى هذه الدولة تشمل العالم اجمع بملياراته السبعة وبعشرات آلاف لغاته ودياناته واختلافاته! وتستمد هذه الحركات الراديكالية غالبية أفكارها الساذجة في السياسة والحكم من أوهام قال بها مجموعة من رجال الدين على مر العقود القليلة الماضية، حاولوا فيها خلق وهم سياسي «متكامل» صالح للتطبيق على البشر أجمعين، وهذا لا شك سراب لا يخلو من الشطط، ويستحيل تطبيقه لا اليوم ولا بعد مليون يوم، وبالتالي ما سينتج عن كل هذه المحاولات البائسة في فرض منهج ديني محدد على الجميع، بالقوة غالبا، هو إراقة المزيد من الدماء والمزيد من الخسائر والمزيد من التخلف، وحركتا داعش والنصرة وتنظيمات الإخوان والقاعدة وذيولها ما هي إلا عناوين لمجموعات متخلفة تنطلق من أوهام العظمة والأفضلية على الغير، وشعور طاغ بأنهم على حق وغيرهم، كائنا من كانوا، على باطل، ويجب «سوقهم» للرشاد، فإن امتنعوا فالقول الفصل للسيف، غير مدركين انه، عبر التاريخ، لم تتمكن أي قوة عظمى من فرض رؤاها وأفكارها على الغير، إلا في أضيق الحدود.
فقد فشلت الإمبراطوريات الفارسية واليونانية والرومانية والعثمانية، والدول الاستعمارية الحديثة كفرنسا وبريطانيا، وتاليا الإمبرياليتان السوفيتية والأميركية، فشلت جميعها، بكل ما توافر لها، ولا يزال يتوافر للبعض منها، من أساليب القوة والبطش من فرض رؤاها ومعتقداتها، أو حتى لغاتها إلا على مساحات وأقليات محدودة، مقارنة بحجم الأرض وسكانها، وكل ما حققته لم يساو يوما ما بذل في سبيله من أرواح وأموال!
فإذا كان هذا كل ما استطاعت مختلف الامبراطوريات العظيمة أن تحققه، فما الذي بإمكان مجموعات مسلحة شديدة التخلف والسذاجة، لا يزيد عدد أي فصيل فيها على بضعة آلاف، أن تفعله أمام كل هذا التقدم التكنولوجي والتعقيد العسكري الذي بحوزة أعدائها، الذين بإمكانهم إفناء أمم، من خلال الضغط على بضعة أزرار في جهاز تحكم عن بعد من غرفة تقع في سرداب مجهول من قاعدة عسكرية صحراوية لا يعلم أحد خارجها أين تقع.
إن القوة والعزة ليستا في فرض مفاهيمنا الدينية على الغير، عنوة أو بغير ذلك، بل بما يمكننا تحقيقه من تقدم اقتصادي وصحي واجتماعي واخلاقي لأنفسنا ولمئات الملايين من الشعوب الإسلامية، التي تشكو من كل مرض وكل ما يجلبه الفقر والتخلف من تبعات. فأميركا لم تحتل يوما أي دولة، وتبقى فيها كقوة مستعمرة لعقود وعقود، كما فعلت فرنسا وبريطانيا مثلا، ولكنها استطاعت بازدهارها الاقتصادي وتقدمها العلمي وحرياتها السياسية ومثلها العليا أن تنجح في ما فشلت في تحقيقه جيوش أقوى الدول المستعمرة، وفرضت ثقافتها وأسلوب حياتها على العالم من دون أن ترسل جنديا واحدا، أو تطلق رصاصة. فحكم العالم اليوم لا يتم عنوة، بل بالعلم والتقدم، فهل تعرف هذه الحركات شيئا عن العلم؟
أحمد الصراف