قصة خلطي، في مقال سابق، بين الخلال والكنار، ذكرتني بقصة طريفة أخرى، سبق أن تطرقت إليها في هذه الزاوية، ولا تضر إعادة ذكرها لطرافتها، ولدلالاتها الاجتماعية والسياسية العميقة، التي تبين كيف كانت، ولا تزال تدار، الأمور في أوطاننا، وقد أخبرتني بها الصديقة روينا إسحاق، التي كانت تعمل مساعدة تنفيذية لصديق كان يعمل في بنك الخليج، وكان ذلك في الثمانينات، وهي تعيش الآن منعمة في وطنها الغربي الجديد.
تقول روينا – نقلاً عن قريب لها كان يعمل سائق أجرة، وكان معروفاً بمهارته وإخلاصه في عمله – إن أحد محافظي العراق، في عهد صدام وبقية اللئام، اتصل بمحافظ، (قائمقام) آخر، وقال له إنه سيرسل إليه «كرتون» موز مع مشمش. كلّف المحافظ قريب السيدة روينا بتوصيل الهدية. وصل السائق إلى بيت المحافظ، وكان الوقت عصر يوم خميس. فتح له المحافظ الباب بنفسه، وسأله عما يريد فسلّمه هذا «كرتون» الموز، فسأله إن كان هناك شيء آخر، فنفى السائق ذلك. وهنا طلب منه الانتظار، ودخل بيته واتصل بالمخفر، وما هي إلا لحظات حتى حضرت سيارة شرطة اقتادت السائق الاشوري إلى الاعتقال من دون كلمة من أي طرف.
بعدها بعشرة أيام تقريباً اتصل المحافظ الأول بالثاني لأمر ما، وسأله، في سياق الحديث، إن كان استمتع بالموز، فشكره الثاني عليه، ولكنه أردف قائلاً إن الهدية وصلت ناقصة، حيث سرق السائق «البواق» كرتون المشمش، ولم يسلمه إلا الموز! فانفجر المحافظ الأول ضاحكاً، وقال إن «سوء فهم» قد حصل، وإنه لم يرسل إليه مشمشاً، بل كان يقصد أنه سيرسل له كرتون موز مع السائق.. أما «مشمش»، فهذا كان اسمه، وكان شهيراً به!
كان من الممكن أن يبقى مشمش المسكين في سجنه حتى اليوم، من دون أن يعرف لا هو ولا أحد غيره سبب سجنه، لولا تلك المكالمة التي تسببت في إطلاق سراحه.
ذكرتني هذه الطرفة بأخرى تتعلّق بزوجة دكتاتور عراقي – وما أكثرهم! – سمعت بمدرس لغة إنكليزية مميز، فطلبت من زوجها أن يفصله من عمله، ويلحقه بالقصر الرئاسي لتدريسها وأبنائها اللغة الإنكليزية! وهنا اتصل الدكتاتور بسكرتيره وقال له بلهجة آمرة: «ابحثوا عن مدرس اللغة الإنكليزية فلان، وافصلوه من عمله، وأحضروه لي»!
بعدها بأيام ذكّرت الزوجة الدكتاتور بأن المدرس لم يصل، فقام هذا بالاتصال، غاضباً، بسكرتيره وصاح به: وين هذا المدرس؟ فرد هذا قائلاً، بكل ثقة: لا تدير بالك يا سيدي، لقد وجدناه، وقمنا بالواجب، واعترف بأنه جاسوس، وتم إعدامه!
أحمد الصراف