في برنامج الإصلاح السياسي للمعارضة هناك فقرتان أو ثلاث تتحدث عن الاقتصاد، تبدأ بعبارة "إن اقتصادنا وحيد الجانب يعتمد أساساً على النفط وتصديره، إذ تشكل إيراداته ما يفوق 90 في المئة من ميزانية الدولة. ونظراً لكون الإنفاق الحكومي هو المصدر الرئيسي وشبه الوحيد لجميع النشاطات الاقتصادية أصبحت التنمية مرهونة بما يطرأ على الصناعة النفطية من تطورات" وختمت الفقرات السابقة بجمل عامة عن العدالة الاجتماعية وتفاوت الدخول وتركيز الثروات في أيدي قلة.
مربط الفرس ومنبع الشرور في حاضر الدولة لا ينحصران في كون النفط المصدر الوحيد للثروة، وإنما بمن يهيمن ويسيطر على الثروة النفطية. ثم يوزعها على المجتمع. وتقرر المادة 28 من الدستور أن "الثروات الطبيعية ملك الدولة تقوم على حفظها واستغلالها"، لكن هذه الدولة التي تمتلك الثروة الطبيعية تدار بصفة مطلقة من حزب الأسرة الحاكمة بمشاركة هامشية من البرلمان، حتى ولو كان هذا البرلمان يحيا في أيام مجده الخوالي. حزب الأسرة هو الحزب الوحيد المصرح له بالعمل السياسي وهو المحتكر للثورة الطبيعية ويقوم "بتوزيعها" وفق دوائر الإنفاق المعروفة سواء تحددت بالقطاع العام وتوابعه، أو الدوائر غير المعروفة المتمثلة بجماعات المقربين لدائرة الحزب ومن يمكن شراء ولاءاته السياسية.
العلة ليست هي النفط كمصدر وحيد، وإنما "الريع" الناتج من هذا النفط. هنا دخل الدولة لا يأتي من عمل وجهد إنسانيين كما هي حال الدولة المنتجة التي تكون القيمة المضافة هي وليدة الضريبة المفروضة، وإنما من "أجرة" مالك صاحب العمارة (الأسرة الحاكمة ووجهها الرسمي الحكومة) ليوزع دخلها على الأفراد، عندها، كما يقرر الباحث غيامو لوشياني في بحث "النفط والاقتصاد السياسي في العلاقات الدولية لدول الشرق الأوسط" أن الدولة هنا منفصلة عن المجتمع، فليست بحاجة له لتستوفي الضريبة من الأفراد كمصدر دخل، في حالة الدولة الريعية التي يقوم نظامها السياسي على المناسبة التاريخية متمثلاً في النظام الأبوي (البطركي) القبلي وتحالفاته لا تعمل قواعد "لا ضريبة بدون تمثيل سياسي، كشعار قديم للثورة الأميركية، وبالتالي الدولة الريعية الأبوية القبلية ليس من شأنها أن يمثل الشعب سياسياً ويشارك في الحكم لأنه لا يدفع ضريبة المساهمة في الدخل العام".
في هذه الدولة الريعية لا مكان لمبدأ سيادة حكم القانون والعدالة، وتعم فيها ممارسة الرشا والمحسوبيات والواسطة، وتكون سلطة توزيع منافع الثروة كما يقررها الحزب العائلي الحاكم حسب مصالحه، في مثل هذا النظام يؤسس الفساد رسمياً، فلا يوجد طبقة رأسمالية، مثلما لاحظ الباحث الأستاذ بجامعة الخليج فهد الزميعي "أبو فهاد" في ورقة بحثية لجامعة إنكليزية، وإنما يوجد "نوفو ريتش" (حديثو الثراء) يمتلكون ثروات خيالية، فمن منكم يعرف هذا أو ذاك من ملاك المولات والعقارات والأطيان العملاقة قبل بضع سنوات، لا نعرفهم في ذلك الوقت، ولكن بقدرة قادر، أصبحوا من أصحاب المليارات، ونفتح أفواهنا استغراباً وليس حسداً على ثرواتهم الفلكية، كيف جمعوا هذه المليارات، لم يؤسسوا "مايكروسوف" مثل بيل غيتس، ولم يقف أحدهم أمام شاشة التلفزيون يشرح عمل الـ"آيباد" مثل الراحل ستيف جوبز. ثرواتهم ناتجة من الفساد الريعي، ومن طبيعة وجودهم ودورانهم في فلك مراكز القرار، التي هي منطقة الجذب المالي، والطاردة للغير، أي غير المحسوبين عليه. في تلك الدولة الريعية تقبر مؤسسات المجتمع المدني من جمعيات نفع عام وغيرها ويتم إلحاقها بمؤسسة الحكم عبر العطايا والمنح المالية، فلا مؤسسات تتوسط بين السلطة والحكم، وتكاد "الديوانية" هي المظهر الوحيد لما تبقى من المجتمع المدني كما قرر الأستاذ الزميعي، الذي يؤكد أن الضحايا الحتميين للإنفاق الريعي ليسوا هم دافعي الضرائب، بل الأجيال القادمة الذين ترك مصيرهم للمجهول بسبب هذا التخبط والفوضى والفساد الريعي. ماذا تركنا لهم… لا شيء غير أنه تم رهن أمرهم للقدر، أليس من حقنا أن نقلق على هؤلاء الأطفال المساكين ضحايا الغد؟ لنتفق أن علتنا اسمها الريع، فهو الفساد الأكبر.