كوستكا براداتان يمجد الفشل (نيويورك تايمز سبتمبر ١٥ – ٢٠١٣) لعدة أسباب، فالفشل يرينا حقيقتنا الوجودية عارية، فهو يحيل الحياة إلى الضد، فنحن كثيراً ما ننسى مصيرنا الحتمي في زخم الأمور اليومية، ونرى حياتنا صلبة دائمة للأبد، فيعيدنا واقع الموت، وهو الفشل الأكبر، إلى حقيقة هذا الوجود الزائل، والفشل بهذا المعنى هو تفجر مفاجئ للعدم في رحلة العمر، فخبرة الفشل ترينا ذلك التصدع في نسيج الوجود، وبهذا يصير الفشل نعمة متخفية، فنحن نتصرف كأطفال وكأن الكون وجد من أجلنا، وفي لحظاتنا المعتمة نضع أنفسنا في مركز الكون، ونطلب أن يرضخ هذا الكون لما نريد، ولعل الفشل يعيدنا إلى الواقع حين يعلمنا "ليس كل ما تتمناه النفس تدركه…"، فتلك الرياح التي تجري بغير ما تشتهي سفننا هي الفشل.
توماس مور في "ياتوبيا" (الكمال المطلق) تخيل جزيرة مثالية يقام فيها العدل المطلق والإيمان، لم تكن هذه الجزيرة سوى حلمه بأن تكون هي إنكلترا في ذلك الزمن، إلا أن ياتوبياه الحالمة للكمال الإنساني يجب أن تقرأ بالمقلوب، فهي إقرار صريح بالفشل في الواقع الإنساني، وتحقق هذا الفشل في نهاية القديس مور تحت فأس الجلاء، بعد محاكمة ظالمة كان الملك هو الحاكم والقاضي، هنا نجد الفشل البيولوجي، وهو المرض أو الحادث الذي يوصل للموت، في فيلم seven seals (الأختام السبعة) عام ٥٧ من القرن الماضي لمخرجه انغمار بريغمان يعود الفارس أنتونيوس بلوك من الحروب الصليبية الى وطنه ليتحدى القدر، ويلعب الشطرنج مع "عزرائيل"، نهاية اللعبة معروفة سلفاً، والانتصار مكتوب على صفحة القدر ذاته لقابض الأرواح، وينتهي الفارس "بلوك" بالفشل إلا أن العبرة هي بمحاولة "بلوك" تحدي الواقع ومصارعته.
مقال "كوستكا البحثي"، شيق، طويل لا يمكن أن أعرضه كاملاً، لخصت بعض نقاطه وزدت عليه رتوشاً، إلا أن كوستكا، أستاذ الفلسفة في جامعة تكساس، كان يقرأ معاني الفشل برؤية شمولية فلسفية، والعبرة التي يجب أن ندركها من بحثه أن نتعلم معنى الفشل، فالفاشلون الحقيقيون هم الذين لا يتعلمون من دروس الفشل، فهل تعلمت أنظمتنا الحاكمة يوماً ما من دروس الفشل المتواصل منذ لحظة ميلادها الوطني حتى الآن، وعلى مدى عقود ممتدة؟ وهل استوعبت تجاربها وتجارب الغير في الدول التي سبقتنا في عوالم الحريات والتنمية، الإجابة نافية، فهم مثل هؤلاء الأطفال الذين يرون أن أزلهم يمتد بلا نهاية، وأن الكون فصل على مقاسهم، وهم في نهاية الأمر يفتقدون فروسية "بلوك" وشجاعته حين تحدى القدر، لأنهم يرون أنفسهم أنهم ذواتهم القدر حقيقة، أي قدر الأمة المنكوبة بهم.