كتب الزميل محمد وقيع الله في أحد المواقع مقالا تعلق بالنظرة السلبية لشخص ومفهوم مكيافيللي، حاول فيه إثبات أنه لم يكن مكيافيلياً، على النحو الذي تفهم به الكلمة اليوم! ففي كتابه «الأمير»، البالغ التأثير، وضع مادة شيقة تبحر بالقارئ في خضم التاريخ وتستخرج دروساً بليغة منه، وتسهل فهم السياسة، وإدراك أسرار صناعة قراراتها، ولكنه كتاب قلما حظي بقراء جادين، فمعظم دارسي الفلسفة والسياسة يكتفون بقراءة مكيافيللي في سياقه التاريخي، الذي تضعه فيه ملخصات كتب الفلسفة والعلوم السياسية، أما عامة المثقفين فقد اكتفوا بفهم المعنى الاصطلاحي المشتق من اسمه، والجاري مثلاً بين الناس، لوصف بعض أنماط السلوك الانتهازي النفعي. ويقول وقيع الله إن مكيافيللي كان مثاليا يهدف إلى تمثل وتحقيق مبادئ وقيم وأهداف الناس القومية العليا، ويروم خيرهم. وصحيح أنه برر استخدام كثير من الفظائع، بل ودعا وحرض على ارتكابها، ولكن ذلك التبرير والتحريض لم يكونا مبذولين لكل من يريد، ولا لكل من يتذرع بكل وسيلة للوصول لأي غاية، وإنما يبذل ذلك فقط للحاكم القوي الهادف لتحقيق منافع عظمى لوطنه، مثل تحقيق الاستقرار وبناء الوحدة الوطنية وتوطيد أسس التنمية والعمران. أما الحاكم الضعيف العاجز، فلا يبيح له ارتكاب أي أخطاء ولا الجنوح لأي تعد أو إرهاب. ويقول عنه إنه كان وطنيا ويغلبه الحرص على مصالح أمته ويؤرقه النظر إلى تناحر الوحدات الأساسية الخمس في وطنه، وهي نابلي، روما، البندقية، فلورنسا وميلانو، ويحزن لما يشاهده من احتراب وتآكل بينها. في حين كانت الدول الأخرى كفرنسا وألمانيا تشهد آيات التوحيد والاستقرار والازدهار. وقد دفعه ذلك لتقصي أسباب حيازة الدول للوحدة والقوة، وكان مدخله لذلك فلسفة التاريخ، وهكذا دلف إلى جماعة من المؤرخين الغابرين، واغتذى من تأملاتهم، ودوّن خلاصاتها في كتابه، الذي يقول عنه إنه درس فيه موضوع القوة، بأقصى ما يستطيع من العناية والاتقان.
وفكرة البعث الإيطالي، أو بعث الدول المتناحرة والمندحرة، وتوحيدها، هو جوهر ما اعتنى به، وهنا فقط أباح للحاكم استخدام وسائل شائنة، ولكنه لم يقل مطلقاً إن «الغاية تبرر الوسيلة» كما ينسب إليه. ولم يبح للحاكم أن يستخدم أي وسيلة حتى في سبيل تلك الغاية الأسمى، بل قام بالمقابل بالنصح، بقوة وصراحة، بعدم استخدام بعض الوسائل مهما تكن الغايات المرجوة من ورائها، بل أوصى الحاكم مثلاً بألا يطمع في مصادرة ممتلكات مواطنيه، لأن ذلك وإن كان في مصلحته، فإنه ليس في مصلحة الدولة. وينقل عنه قوله إن الإنسان أسرع إلى أن يغفر مقتل والده منه إلى الصفح عمن يصادر ميراثه عنه! وأن الحاكم الفطن قد يقتل ولكنه لا ينهب. وإن القتل لتوفير الأمن ولرعاية أملاك الناس وأرواحهم، وليس لغرض البطش.
أحمد الصراف