سعيد محمد سعيد

اشفط… اشفط… ثم اشفط!

 

«ودي أصدق… بس قوية قوية قوية». هذه العبارة ضمن مشهد مسرحي للفنان الكويتي سعد الفرج، تكررت كثيرًا خلال الأيام القليلة الماضية مع حالة التذمر والغضب الشديدين بين أوساط المواطنين الخليجيين الذين طفح استياؤهم بشكل كبير جدًا إثر الشلل الذي أصاب دول المنطقة نتيجة الأمطار الغزيرة.

ولأن عملية (الشفط) مستمرة، والهوامير (يشفطون) ليل نهار بدرجة فاقت عمليات (شفط) مياه الأمطار بواسطة الآليات والصهاريج والمضخات، فإن انتشار مقاطع الفيديو الغاضبة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أخذت شكلًا من أشكال التنفيس الناقد! تجد هنا مسئولًا خليجيًا يتحدث عن صرف الملايين على هذه المدينة لتصبح من أكبر المدن النموذجية في العالم، وتجد هناك مسئولًا آخر يتحدث بفخر عن موازنة هي الأولى من نوعها في تاريخ بلاده لإنشاء شبكات الطرق والمجاري والمرافق والخدمات في عاصمة تباهي العالم بتطورها، ثم يفاجئك المشهد المباغت ليظهر الفنان سعد الفرج وهو يقول: «ودي أصدق… بس قوية»! كتعليق ساخر على (الصواريخ) التي يطلقها بعض المسئولين.

الظروف الجوية التي مرت بها دول المنطقة لم تقتصر على تعليق الدراسة في بعض الدول وغرق مناطق سكنية بالسيول وانهيار بعض الجسور وفشل فرق عمل الطوارئ في اتخاذ ما يلزم، بل سجلت حالات وفاة وعمليات إيواء وخسائر هي الأخرى بالملايين إن لم تكن بالمليارات… ربما ذهب الكثير منها في عمليات (الشفط) على مدى سنوات مضت.

في منطقة تعتبر الأغنى في العالم، تذوب التصريحات الصحافية والمانشيتات العريضة في الصحف والكلام (المدهش) في الفضائيات وأطنان التقارير الإعلامية المبهرجة اللامعة عن مشاريع التطوير والتحديث أمام مشاهد السيول الجارفة وغرق البيوت والسيارات وانهيار مرافق حيوية صرفت عليها الملايين أيضاً… ويصبح كلام المسئولين المليء بالتلميع (مسخرة كبرى) أمام مشاهد أولياء الأمور وهم يحملون أطفالهم ليوصلوهم إلى بوابات المدارس، وأمام مشاهد (الإبحار) وسط طرقات الحي السكني باستخدام قطع الفلين أو الـ(بلاي وود) الكبيرة أو القوارب الصغيرة أو… حتى باستخدام قدور الطهي الكبيرة من حجم إكس إكس لارج! كل ذلك وسط استمرار عمليات (الشفط) بكل أنواعها، من تحت الطاولات وفوقها وحولها.

نعم، لا أحد من المواطنين في الخليج يعترض أو يغضب أو يتذمر من المشاكل التي تحدث بسبب تغير الظروف الجوية الطبيعية مثل تكون المستنقعات أو انقطاع التيار الكهربائي أو تعطل بعض المشاريع أو تضرر بعض المرافق… لكن، لا يمكن قبول ظهور هذه المشاكل الكبيرة جدًا والناتجة عن سوء التخطيط وضعف البنية التحتية للمشاريع التي (شفطت) المليارات! ولا يمكن اعتبار (الشلل) الذي أصاب الكثير من المدن نتيجة سوء أنظمة تصريف الأمطار ومواجهة السيول حتى أن بعض الفضائيات استخدمت في تقاريرها عبارات من قبيل: «السيول أغرقت مدنًا خليجيةً بـ «لتر ماء»، وهو ما دعا الكثير من مواطني الخليج إلى أن يصبّوا جام غضبهم على المسئولين في الحكومات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبخاصة على صعيد التغريدات في تويتر».

والغريب، أن تقريرًا للـ (سي إن إن)، حين تشاهده وتتأمل في الأحداث، تشعر بأنك أمام كارثة كبرى حقيقية: «تمر دول الخليج في ظروف جوية تصاحبها الأمطار الغزيرة، بينما انشغلت فرق الإنقاذ بعدة مناطق بالاستجابة لنداءات الاستغاثة، ودعت الشرطة الآباء والأمهات إلى ضرورة مراقبة أبنائهم عند الخروج إلى أماكن جريان الأودية والمنتزهات خشية سقوطهم في البرك والمستنقعات والسدود ومجاري الأودية، مؤكدة أن الأيام الماضية شهدت وقوع عدد من حوادث الغرق نتيجة لعبور الأودية وعدم اتباع النصائح التي تبث في وسائل الإعلام المختلفة»، وأغرقت السيول مناطق عدة بل ما كان لافتاً أن غالبية «السراديب» في المباني الضخمة تحولت إلى برك مياه، ما هدد تلك الأبنية، وحذر خبراء من تساهل الحكومات الخليجية تجاه تلك السيول، مؤكدين أن الدول الخليجية تخسر مئات الملايين يومياً بسبب تلك الفيضانات والشلل الذي يحدث جراء تلك الأمطار، وأوضحوا أن الأمطار كشفت عن «فساد» سواء في عدم الإشراف على المشاريع أو سوء التخطيط أو عدم وجود صيانة مطلقاً، وإن انهيار بعض الأجزاء من مبانٍ وأرصفة وغيرها من المرافق يعود لفساد واضح وغياب الرقابة على الذين ينفذون المشاريع، وتتم الموافقة على مشاريعهم ولا تتم محاسبتهم». (انتهى الاقتباس).

ومع استمرار عمليات (الشفط)، ومع ما تعرضت له دول الخليج الغنية من كارثة بسبب موجة أمطار… آن الأوان لأن يتم البحث عن مصادر وآليات (الشفط) التي تعمل بطاقة (الفساد) وايقافها في الحال ومساءلة المتورطين في تشغيلها فما حدث قد أرجع مدنًا نموذجية إلى ما قبل الحضارة.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

سعيد محمد سعيد

إعلامي وكاتب صحفي من مملكة البحرين، مؤلف كتاب “الكويت لاتنحني”
twitter: @smsmedi

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *