هل هي مسألة وصفة من وصفات صندوق النقد المثيرة للمتاعب التي قد تتطور لأعمال عنف وشغب، وأحياناً ثورات كما يراها الكثيرون من أهل اليسار، أم أنها مجرد نصيحة "صادقة" للسلطة ولأهل الكويت، إما أن يأخذوا بها أو يرفضوها؟! ردود الفعل الشعبية، بصورة عامة، التي جاءت بعد تصريحات مديرة الصندوق عن ضرورة ضبط الدولة لباب الإنفاق على الأجور في المرفق الحكومي، ووقف الدعم لبعض السلع والخدمات… إلخ، جاءت رافضة لطرح الصندوق، ورأت فيه مجرد وصفة مكلفة يدفع ثمنها أصحاب الدخول المتوسطة والمحدودة ولا تمس الأغنياء، فمتوسطو الحال، هم الذين يلتحقون بالعمل الحكومي عادة، وهم من يعتمدون بدرجة كبيرة على الدعم الحكومي للسلع والخدمات، وهم الأكثرية، وهم يرون أن أبواب العمل في القطاع الخاص (في الأغلب والأعم) مفصلة لأبناء أصحاب هذا القطاع بحكم وراثة الثروات ووراثة فرص العمل، كان ذلك الوجه الأول للعملة، أما الوجه الآخر فهو أنه لا يوجد في الحقيقة قطاع خاص حقيقي مستقل يمكنه أن يستوعب القادمين إلى سوق العمل، فهو تابع لإنفاق الدولة، وفي كل الأحوال لا يستطيع ذلك القطاع أن يجاري الوظيفة الحكومية في كرم الرواتب، ولا أيضاً في "التسيب" الوظيفي.
هي دائرة مغلقة لا يمكن كسرها بتحليل أحادي يعتقد أصحابه أنهم وحدهم من يملكون الحقيقة للواقع الكويتي الريعي، فلا يجوز النظر إلى الأمور من زاوية واحدة، أي قراءة رأي الصندوق على أنه وصفة طبقية تزيد من تعاسة البؤساء وتتناسى أصحاب الثراء، فالحديث ليس جديداً، بل مضى عليه عقود طويلة منذ التحرير قبل عشرين عاماً تقريباً، وهو حديث يترجم اليوم مسرحية "الكويت سنة 2000" القديمة لمَن يذكرها، والتي تتناول بأسلوب ساخر حال الكويت حين ينتهي عصر النفط، فليس صندوق النقد وحده من قرأ وحلل واقع الدولة، فعشرات ومئات المقالات تحدثت عن الأمر ذاته كتقارير الشال إلى آراء العديد من المختصين الاقتصاديين الذين نبهوا إلى خطورة الاعتماد على النفط كمصدر يتيم للدخل القومي، وحذّروا من تنامي باب النفقات العامة في باب الأجور والدفاع وغيرها من أبواب التبذير، فقد كانت نفقات الباب الأول "للمكاريد" وهو حصتهم من الثروة النفطية، وباب مخصصات الدفاع وأبواب المناقصات للمحظوظين من أهل اليسر، وهو حصتهم الوراثية، لكن، في كل الظروف، لم يستمع أحد من السلطة لأجراس الخطر التي تقرع، والتي نبهت مرات كثيرة إلى ضرورة الاستثمار في الإنسان بالتعليم الجيد وباحترام قيم العمل كخلاص وحيد لضمان مستقبل مجهول.
المجهول لم يعد مجهولاً، فالدراسات في الخارج، والله أعلم، تتكلم بإسهاب عن النفط الحجري والغاز اللذين يكتشفان ويستخرجان في الولايات المتحدة، وبالتالي لن يكون هناك حاجة إلى سلعتنا الوحيدة. وفي الداخل، لم يعد الكلام عن البطالة، مهما كانت بسيطة، اليوم أمراً غير معروف، فهي تتزايد، والدولة تقر بعجزها عن استيعاب القادمين إلى سوق العمل الإداري، فهي تقر بأنه ليس عندنا غيره في إقطاعيات الورق والتواقيع والواسطات والمحسوبيات في التعيين والترزق من باب الوظيفة العامة.
أي مشروع يقدم من السلطة، المنقسمة على نفسها والغارقة في خلافاتها، نحو إلغاء الدعم وزيادة الرسوم وربما فرض ضريبة تصاعدية، مع تقليص فرص العمل في الوظيفة العامة، سيكون كارثياً على أمن البلاد، حينئذ قد تفكر السلطة في إنهاء الحالة "شبه الديمقراطية" بالدولة ويصير الأمر حكماً مطلقاً مثل حال بقية الأشقاء، حتى يمكن أن تواجه عصياناً مستقبلياً، لا يتعلق هذه المرة بالصوت الواحد بالمجلس، بل بأرزاق الناس وقوت يومهم، و"قد" (الاحتمالية) تفكر السلطة في فتح أبواب الديمقراطية على مصاريعها وتقول للناس تحمّلوا مصيركم فلن أتحمله وحدي، وهذا مستبعد عن فكر الجماعة، لكن لا يمكن نفيه تماماً. وفي كل الأحوال، فبداية التحضير للغد "المعروف" هو، كما نكرر، أن تبدأ السلطة بنفسها وتشرع في إصلاح حالها، حتى يتقبل الناس فيما بعد ما يُطلَب منهم من تضحيات، وسيكون من الأفضل التحدث عن الشروع في إنهاء دولة الفساد قبل الحديث عن نهاية دولة الرفاه.