نقلا عن ممدوح المهيني، من واشنطن، بتصرف: زعماؤنا يلاحقون في الحفر وأنابيب مياه المجاري، وأطفالنا يبادون بالغازات، ومفكرونا مجهولون، ومتعصبونا في ازدياد، ويدفعون مزيدا من المراهقين للموت، وعاطلونا يغرقون على الشواطئ الأوروبية، والفوضى تعم دولنا، ومعدلات الفقر في تزايد، والأمل في تناقص، ونظم التعليم متهالكة، وجامعاتنا ميتة، والكل يشتكي من غياب القيم والقانون والتعاون ومن اهتراء الأوضاع، فلم حدث لنا هذا؟ هناك بالتأكيد خلل، وسببه اختيارنا الإجابة عن السؤال الخاطئ! فعندما يقع شعب في أزمة حضارية فإن عليه أن يختار الإجابة عن سؤال من اثنين: ما الخطأ الذي ارتكبناه؟ والإجابة الناقدة ستقوده حتما لإلقاء المسؤولية على الجهة المسؤولة، ليتم تصحيح المسار. والسؤال الثاني هو: من فعل بنا هذا؟ والجواب هنا سيقود الى سلسلة لا تنتهي من التبريرات وأوهام المؤامرة والاضطهاد ووجود أعداء وهميين.
يقول مؤلف كتاب «الحقيقة الليبرالية المركزية»، لورانس هاريسون، ان اليابان طرحت السؤال الأول على نفسها، وانطلقت حضاريا بعدها! أما بلداننا فقد اختارت السؤال الثاني، وما زالت تعاني من التراجع والتفكك، لأنها اختارت محاربة الأعداء والغزاة الذين يسعون لإذلالها وتحطيم مجدها. وهو يدعو في كتبه إلى طرح السؤال الأول فقط، لأنه سيقود الى نقد جذري للثقافة، ويجنب إلقاء اللوم على الآخرين. فالثقافة، بقيمها ومبادئها العميقة، هي المرآة التي تعكس صورة المريض الحقيقية، وهي السبب في دفع شعوب للتقدم وغيرها للتأخر، وتجنب تبرير الخلل، ولكن ما الثقافة التي تدفع أمما إلى الأمام وأخرى إلى الوراء؟ يقول هاريسون ان التعاليم الدينية من أقوى العناصر التي تدفع إلى التقدم إذا ما اتسمت بالعقلانية، ودعت إلى قيم الكد والعمل وجمع الثروة، هذا سبب تقدم الدول البروتستانتية في أوروبا مقارنة بالكاثوليكية، التي قاومت أفكار النجاح الشخصي ودعت الى الاهتمام أكثر بالعالم الآخر، والتقليل من قيمة الحياة والمال. وهناك أيضا تعاليم تدعو الى الخرافة واللاعقلانية وتزرعها بعقول متبعيها، وكلما زادت قوة حب الحياة في هذا العالم، زادت الرغبة في تطويره ودفعه الى الأمام. وهذا عكس ما تفعله الشعوب الأخرى، التي تعلن الاستقالة من الحياة، فتفقد الرغبة في النجاح والتفوق، وبالتالي فالعصر الذهبي للإنسان هو في مستقبله وليس ماضيه، وهذا عكس ما تفكر به الثقافات التي تسكنها فكرة أن الماضي أفضل من الحاضر! كما أن لعامل عدم احترام الحقائق العلمية دوره في انحراف مسار المجتمعات، ويمثل عائقا أمام التحديث. كما تدفع لقيم أخلاقية مثل الثقة والصدق والتعاون دولا كالسويد والنرويج والدانمرك، لتحتل قائمة الدول الأكثر نجاحا، على عكس دول تسيطر عليها أفكار انعدام الثقة والتعاون. كما أن الدول التي تعطي تعليم الجنسين المكانة الأعلى هي الأكثر قدرة على التطور. ففي عام 1905 مثلا كان %90 من أطفال اليابانيين في المدارس، وبدأت حرب السويد ضد الأمية قبل مئات السنين. كما تلعب قيم التسامح والانفتاح في تقدم المجتمعات، كما حدث في عراق العباسيين. وهناك عوامل عدة أخرى، ولكن هل لدينا حكومة «رشيدة» بإمكانها القيام بدورها؟ هذا هو سؤال التريليون دولار!
أحمد الصراف