كثيرة هي الحوارات التي تدور بيني وبين العديد من الاخوة الأعزاء سنوياً، لاسيما في موسم عاشوراء، ولا سيما أكثر، مع من اعتنق فكرة قديمة تليدة! وهي أن موسم عاشوراء هو موسم للتناحر والبغضاء ونشر العداء والتطاحن والطائفية بين المسلمين، والنيل من رموز دينية تاريخية لها مكانتها، وتأليب الطوائف ضد بعضها البعض وقائمة طويلة من المشاهد والصور والأفكار السوداء، فيما تغيب عن عقول أولئك وعيونهم أي صورة إسلامية اجتماعية إنسانية رائعة هي الأكثر بروزاً في موسم عاشوراء.
ولعلني أتساءل: «لماذا حقاً، يتم تغييب صور الإحياء العاشورائي بدلالاتها الدينية والعقائدية والفكرية والإنسانية، وتتصدر، عمداً، أنشطة التصيد المقصود للإساءة إلى هذه الذكرى الإسلامية العظيمة؟ ومن يقوم بهذا الفعل؟». ولابد أولاً من الاتفاق مع الآراء التي تقول بأن هناك ممارسات يقوم بها البعض في عاشوراء كل عام، فيها من الإساءة والتشويه للمذهب وللذكرى، وهذه الممارسات التي عادةً ما تكون محدودة ويتصدى لها العلماء والخطباء والرواديد ويحذرون منها، إلا أنه من غير الإنصاف أن يبقى البعض على مسلكه في التصيد السيئ الهادف إلى تأجيج الفتنة، ويتناسى، عامداً أيضاً، كل الممارسات ذات الطابع الإسلامي والاجتماعي والإنساني والثقافي الرفيع؟
إن بضع ممارسات متكررة تصدر من فئة محدودة من خطباء المنبر الحسيني غير المؤهلين ممن يثيرون مواضيع الصدام المذهبي التاريخي أو ممن يبتعدون عن البحث العلمي والفقهي الأصيل، ويعتمدون في خطبهم على الماورائيات والخزعبلات والخرافات، أو بضع ممارسات من جانب فئة من المشاركين في مواكب العزاء أو المتفرجين بما فيها عروض الأزياء والمعاكسات التي تصدر من بعض الشباب من الجنسين، لا يمكن أن تكون هي الصورة الرئيسية لهذه الذكرى الإسلامية العظيمة بكل مبادئها وأبعادها، إلا بالنسبة لمن سخر نفسه في الفضائيات والمواقع الإلكترونية وحسابات التواصل الاجتماعي والمنشورات والكتب والمحاضرات التكفيرية الطائفية الخبيثة. فهو بالطبع، يتعمد عن قصد، تصيد تلك الممارسات المرفوضة، خصوصاً في موسم يشارك فيه الملايين حول العالم، وليس من صالحه قطعاً أن يكون منصفاً.
وعندما أقول أن (ليس من صالحه أن يكون منصفاً)، وأقصد جوقة العداء المذهبي في الفضائيات والإعلام الإلكتروني وبعض الصحف، فإنه، على سبيل المثال لا الحصر، حين يصوّر المعزين على أنهم دمويون يفعلون ما لا علاقة له بالإسلام، يغمض العين عن حملات التبرع بالدم سنوياً، ذات الارتباط الوثيق بالإسلام. وحين يقتطع مشاهد لبعض الخطباء ويتفنن في القطع واللصق لنيل الإساءة في صورة قبلها ذوي العقول الطائفية المريضة، يتعمد الابتعاد تماماً عن العلماء والخطباء والمثقفين الذين يقدمون محاضرات وكتابات قمة في الرقي من ناحية تناولها لمعاني وأهداف النهضة الحسينية العظيمة التي لا يمكن أن تموت أبداً، كونها تمثل مبادئ الإسلام ذاته. وحينما يتعمد ملاحقة المظاهر الدخيلة على إحياء موسم عاشوراء في بعض الدول وخصوصاً الآسيوية كالطقوس الغريبة التي لا علاقة لها بالمذهب الشيعي، لا من قريب ولا من بعيد، تجده يهرب بعيداً عن الندوات والمؤتمرات التي تجمع علماء الطائفتين الكريمتين، ويشارك فيها رجال دين ومفكرون من مختلف الأديان، وتبرز ذلك «الصوت الحسيني المزلزل» الذي يدعو إلى الإصلاح والسلام والمحبة والمساواة والفداء والتضحية ورفع راية الإسلام، ويحارب الجور والطغيان والفساد والاستبداد والظلم. ليس في صالحه أبداً إلا أن يكون جرثومةً تعيش حيث يمكن أن تكون أفكاره الخبيثة حاضرةً نشطة.
ولأن أولئك (الجرثوميين) يستمدون أيضاً بقاءهم من ممارسات التناحر الآثمة التي يتبعهم فيها من رضي باعتناق الأفكار المنحرفة، فإن نتاج ذلك الشحن لا يظهر فقط في صور البيانات الإجرامية الجبانة التي تدعو إلى الدموية والقتل والانتقام من «الكفار» وحسب، بل يتبعها إعلان استعداد «فصيل من الجرثوميين» لأن يلبسوا الأحزمة الناسفة ويفخّخوا السيارات ويفجرونها في المآتم والحسينيات ومواكب العزاء كما هو الحال في العراق وباكستان، لكي يضمنوا دخول الجنة مع من أوصاهم بهذا الفعل.
«فلا عجب، بعد مرور 1374 عاماً على نهضة الإمام الحسين عليه السلام في محرم من العام 61 للهجرة، أن يجد أحرار الدنيا اليوم هويتهم في الحسين (ع)، ويبحث الأراذل عن صلة قرابة بيزيد، فالصوت الحسيني المزلزل هو صوت جده المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولأنه صوت جده النبي الأكرم، فإنه صوت الحق الإسلامي، ومهما فعل التكفيريون والمفجّرون والمفخخون للبطون والكروش والعقول الشيطانية، فلن يتمكنوا أبداً من محو ذلك الصوت المزلزل: وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً… إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي. أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر». لقد سبقتهم في ذلك دول وسلاطين وأساطين وأباليس ذهبوا إلى مزابل التاريخ، وبقيت مبادئ الحسين (ع)، تتألق باسم الدين الإسلامي، لا عاماً بعد عام، بل يوماً بعد يوم.