لم يتمكن المواطن المحترم من إخفاء غيظه وغضبه من ذلك الخطيب الذي كان يلعلع بأعلى صوته مادحاً ومثنياً وذاكراً مناقب فلان وعلان، حتى أنه بعد انتهاء الصلاة لحقه إلى سيارته وقال له: «جزاك الله خير الجزاء يا شيخنا الفاضل، والله أنك من أهل الحق ومن المدافعين عن الحق وممن يخافون الله ويقولون الحق ولا يخشون في الله لومة لائم».
ويبدو أن ذلك الخطيب لم يصدق كلام المواطن المحترم، وشعر بأنه يسخر منه! فالخطيب، يعرف نفسه أنه ما قال الحق يوماً! ويدرك أكثر وأكثر إنما هو لا يقول إلا ما يملأ جيوبه بالفضة والذهب… صمت برهة ثم نظر إلى المواطن المحترم نظرة استغراب وأردف «ماذا تقصد؟ ماذا وراءك؟ ما الذي تريده؟»… في تلك اللحظات، تجمهر بعض الناس حولهما فإذا بالمواطن المحترم يقول: «ألا تمل من الشيكات يا هذا؟ هل تشعر بالفرح والسعادة والفخر وأنت تملأ عقول هؤلاء، ومعظمهم من الآسيويين الذين لا يفقهون أصلاً ماذا تقول، ومعهم قلة من المواطنين والعرب الذين هم أيضاً لا يستطيعون أن يردوا كلامك المليء بالنفاق والباطل والتحريض والتهريج؟ تمدح فلان وعلان وتجعل من المواطن المسكين وكأنه بهيمة الأنعام؟ ألا تستحي على وجهك؟ أليس لديك الجرأة لأن تتحدث عن حال المواطن الذي يعاني الويلات في حياته؟ هل هذه مسئوليتك أمام الله والناس؟ ثم تعال… متى ستكبر ويكبر المخ الذي يقع داخل هذا الرأس الكبير؟ ما عندك إلا فتنة وتأليب وشتائم، وإذا وصلت إلى خط هذا المسئول أو ذاك صرت كالنعجة؟.
حوقل الخطيب واستغفر وركب سيارته والمواطن المحترم يلاحقه بكلماته: «أي نعم حوقل واستغفر وقص علينه… تعال لا تروح ما خلصت كلامي… تعال اطلع فيك وفي أشكالك الحرة… يللي ما تستحون… أي دين تعرفون؟ شاطرين في الضحك على عقول الناس، والقهر أن بعض الناس يصدق كلامكم الغبي… تعال».
غادر ذلك الخطيب مسرعاً بسيارته فيما كان بعض الحاضرين يحاول تهدئة المواطن المحترم: «صلِ على النبي يا خوي… تعوذ من الشيطان… هدئ أعصابك واكسر الشر»، فيما آخرين كانوا من جوقة الخطيب تصدوا له واسمعوه كلاماً قاسياً: «ترى الشيخ تاج راسك… من أنت حتى تقف أمام هذا الأسد… نعم هو أسد الحق على أهل الباطل»… وبالطبع كان المواطن المحترم يستمع لهم ويضحك بصوت عالٍ لأنه يدرك أنهم من مجموعته الذين يحصلون على فتات موائده ويدهن سيرهم وهم دائماً على أهبة الاستعداد لأن يدافعوا عنهم مهما كان نوع دهان السير، لكن المواطن المحترم لم يسكت لهم وأسمعهم هو الآخر كلاماً لم يعجبهم: «أنت لستم سوى دمى… تصدقون نعيق هؤلاء الذين وجدوا فيكم مجموعة من الأغبياء الذين يصفقون لكل شيء… مطالب معيشية يصدحون بها وتذهب أدراج الرياح وأنتم تصفقون… عرايض ومواقف وتهديد ووعيد وأنتم تصدقون… سيطردون السفير الفلاني والعلاني وسيقفون أمام بيته كالأسود ثم يصبحون كالخرفان وأنتم تصفقون… دائماً تصفقون لأن التصفيق لديكم مدفوع الثمن… اغربوا عن وجهي».
انتهى المشهد ولايزال المواطن المحترم في حنقه وغيظه… كان يستذكر العديد من المشاهد التي أصبحت موضة لدى بعض الخطباء والنواب والمتسلقين والمصفقين والمطبلين كلهم يلهثون وراء الهبات والأعطيات ويرجون من الممدوحين ما لا يرجو غيرهم، وعندما وصل إلى بيته وجد ثلاثة أشخاص ينتظرونه وعلى وجوههم ملامح المتوحشين… لم ينظر لهم ولم يسلم عليهم وعندها هم بدخول منزله وقف أحدهم أمامه نافخاً صدره وقال: «هذه أول وآخر مرة تخاطب فيها فضيلة الشيخ بهذه الطريقة… هل سمعت؟ وإلا سترى ما لا يسرك… يجب أن تعلم أن فضيلة الشيخ رجل لا يقول إلا الحق وهو يواجه أهل الباطل والمنكر ويقارع الخونة والمتآمرين ويحذر البلاد والعباد منهم»… بالطبع، لم يمتلك المواطن المحترم الشجاعة لأن يواجه ثلاثة أشخاص مدفوعي الأجر، إلا أنه حاول أن يتمالك نفسه ويظهر في مظهر الشجاع فقال: «هل جئتم لتضربونني مثلاً؟ إن ذلك الرجل الذي تجعلونه في مقام الأنبياء إنما هو يضحك عليكم ويخدعكم وأنت تعلمون ذلك، وتعلمون أيضاً أن أمثال هؤلاء لا تهمهم قضايا الناس ومصلحة الناس ومعيشة الناس، إنما يهمهم جيبهم فقط… لكن على أية حال، أعدكم بأنني لن أكررها… وعد… أي والله وعد… وما راح أطب أصلاً المسجد الذي يصلي فيه أسدكم، فأنا أفضل الصلاة مع بني البشر».