كنا في بداية الستينات نذهب أحياناً، خصوصاً في مواسم العطل الصيفية الطويلة، إلى مقاهي الشارع الجديد، شارع عبدالله السالم لاحقاً، التي كان الجيد منها يقع على أسطح عمارات الشارع التي لم يكن يزيد ارتفاعها على طابقين.
كنا نستمتع هناك بتناول الأطعمة الشعبية، ولعب الورق والدامة، وغيرها من الألعاب الشعبية. وكان حضور هذه المقاهي خليطاً من مواطنين موسرين ورقيقي الحال ومقيمين، خصوصاً من اللبنانيين العاملين في الشارع نفسه، وبعض المصريين من مدرسين وغيرهم. وكان النقاش السياسي يحتدم أحياناً بين الحضور، خصوصاً مع «تحركات» وخطب عبدالناصر. كان الوضع حينها في العراق والأردن ملتهباً، والصراع بين المعسكرين، الغربي والشرقي، محتدماً، وكل طرف من الحضور يبدي وجهة نظره، وكانت الأصوات تتعالى أحياناً، ويزعل هذا ويرضيه آخر ويتفق ثالث معهم، ثم فجأة يتوقف الجدال، ويلقي كل محارب سيفه، ويعدل من جلسته، وينهي كل مشارك آخر كلمات حديثه، قبل أن يسود الهدوء مع صدور أولى النغمات من جهاز الراديو الكرونديك الكبير الموضوع في صدر المقهى، وتبدأ ضربات الدف بالارتفاع يصاحبها لعب رقيق على أوتار عود أو نقرات خفيفة على قانون، وتسمح نحنحة من عازف و«تسليك» زور من آخر، قبل أن يرتفع صوت التصفيق من الراديو مؤذناً بقدوم من أتينا لسماعها، وبعد مقدمة موسيقية رائعة يبدأ الشدو ويخرج صوت أم كلثوم الجميل شاكياً متسائلاً شاكياً:
هجرتك يمكن أنسى هواك.. وأودع قلبك القاسي
وقلت اقدر في يوم أسلاك.. وأفضي م الهوى كاسي
لقيت روحي في عز جفاك.. بافكر فيك وانا ناسي
غصبت روحي على الهجران.. وانت هواك يجري ف دمي
وفضلت أفكر في النسيان.. لما بقى النسيان همي
لو خطر حبك في بالي.. والا زار طيفك خيالي
حاولت أهرب م الأفكار.. اللي تشعلل نار حبي
وافضلت وانا بالي محتار.. في الحب بين عقلي وقلبي
وكان هجري عشان أنساك.. واودع قلبك القاسي
لقيت روحي في عز جفاك.. بافكر فيك وانا ناسي
صعبان عليّ جفاك.. بعد اللي شفته في حبك
مش قادر انسى رضاك.. أيام ودادك وقربك
لكن اعمل ليه.. وانا قلبي لسه صعبان عليه
صعبان عليه انه اتمنى.. قربك
ونال مراده واتهنى.. بنعيم حبك
ورجعت تسقيه من صدك.. كاس الهجران
وتفوت عليه أيام بعدك.. سهد وحرمان
وقلت أراضيه وأنسي هواك.. وأودع قلبك القاسي
وقلت اقدر في يوم أسلاك.. وأفضي م الهوى كاسي
لقيت روحي في عز جفاك.. بافكر فيك وانا ناسي
ياما حاولت أنساك.. وأنسى ليالي هواك
وأنسى الجمال اللي شفته.. في الوجود وياك
حرمت روحي من كل نسمة.. كانت بتسري بينك وبيني
وحرمت روحي من كل نعمة.. كانت بتحلى وياك ف عيني
وقلت أعيش من غير ذكرى.. تخلي قلبي يحن إليك
ما فضلش عندي ولا فكرة.. غير إني أنسى أفكر فيك
وصبحت بين عقلي وقلبي.. تايه حيران
أقول لروحي من غلبي.. أنسى النسيان
ما دام باهجر عشان أنساك.. وأودع قلبك القاسي
واشوف روحي في عز جفاك.. بافكر فيك وانا ناسي
أحمد الصراف