"إن المذابح لم تتم في صمت، وتحت جنح الظلام، فقد كانت الآذان الإسرائيلية، مضاءة بصواريخها المنيرة، مصغية إلى ما يجري في شاتيلا، ذلك من مساء الخميس. يا لها من حفلات ومن مآدب فاخرة تلك التي أقيمت حيث الموت، كان يبدو كأنه يشارك في مسرات الجنود المنتشين بالخمرة والكراهية. ولا شك أنهم كانوا منتشين أيضاً بكونهم نالوا إعجاب الجيش الإسرائيلي الذي كان يستمع وينظر، ويشجع، ويوبّخ المترددين في قتل الأبرياء…". الفقرة السابقة كانت لعملاق الأدب الفرنسي الراحل جان جينيه، يصف فيها مشاهداته الحية لما حدث في مثل هذا اليوم قبل إحدى وثلاثين سنة في صبرا وشاتيلا.
جان جينيه هو اللص السابق، وابن الحرام، وهو الشاذ الجنسي، ابن الطريق، الذي قال "ولدت في الطريق وسأموت في الطريق". إلا أنه في الوقت ذاته وقف مع المضطهدين والمهمشين، أينما كانوا، من الفهود السود في أميركا الستينيات إلى حركة تمرد ١٩٦٨
(ثورة الطلاب) بأوروبا، وظل وفياً للثورة الفلسطينية وللقضية العربية حتى آخر لحظات حياته، مشاركاً معها في السبعينيات حتى "أيلول" الأسود، ثم عاد بعد أكثر من عشر سنوات لينقل لنا أبشع صور مجازر صبرا وشاتيلا في كتابي "شعرية التمرد"، و"مذكرات أسير عاشق"، وكان قد تجاوز السبعين عاماً من العمر الشقي.
توفي جينيه في منتصف الثمانينيات، ودفن في بلدة صغيرة بالمغرب، وهو البلد الذي عشقه بعنف. ماذا لو كان حياً حتى أيامنا هذه، ورغم أن التاريخ لا يعرف كلمتي "ماذا لو"، فإن لنا أن نتخيل ماذا يمكن لمثل هذا الشاعر الأديب الفرنسي أن يقول عن واقعنا اليوم، وأين سيكون؟ سنراه طبعاً في كل مكان تتعالى فيه أصوات الحرية والنضال نحو السماء. بالتأكيد سيكون في تونس الثورة، وسيكون أول الراثين لمحمد البوعزيزي. بعدها، سيكون في مصر في قلب ثورة يناير ليقف مع الثوار عام ٢٠١١، وسيكون في صنعاء في العام نفسه، وسيكون في رابعة العدوية في يوليو الماضي، متحدياً قوات "الثورة الانقلابية" للنظام العسكري، وسيكون في ريف سورية، وسيزور "الغوطة" ليصف لنا مشاهد الأطفال المختنقين من قذائف بشار الكيماوي المتأسي بعلي الكيماوي بمثل ما وصف لنا مجازر صبرا وشاتيلا. سيرى في جنرالات بشار امتداداً عرقياً وروحياً لثقافة إيلي حبيقة قائد القوات اللبنانية، وقيادات الكتائب وسامي حداد الذين باشروا طقوس الذبح والصلب في شاتيلا حين اتهموا الفلسطينيين بتدبير تفجير سكن بشير الجميل وقتله، رغم الأدلة على أن الجاني كان النظام السوري، وسيقف جينيه مع المشردين السوريين في الداخل والخارج، وسينقل لنا كل مشاهد الجوع والحرمان للكثير منهم، وسيروي لنا عن مساعدات دول الخليج للثوار في سورية وما يرافقها أحياناً من طقوس عقود زواج "الحلال" لصغيرات من اللاجئات السوريات الجميلات من بعض أهل الخير من كهول بني نفط حين أرادوا الستر عليهن، ولتخف عليهن وطأة ضياع الوطن والسكن عبر بوابة إشباع الرغبات الجسدية الآفلة لمن هم في خريف العمر.
سيحار جان جينيه من أين يبدأ وأين ينتهي في خرابنا العربي، لكني أذكر هنا حين أخبره الكاتب المسرحي السوري الراحل سعدالله ونوس بأن نيكسون سيزور القاهرة، كان رد جان جينيه حاسماً
وبأسى: "سيظل تاريخكم نزيفاً من الشقاء والدم، حتى ينضب نزيف البترول"، فهل تحققت نبوءة أديب النضال أم لا؟… عندكم الجواب.