“>
يمكن القول إن الموسيقار المصري سيد درويش هو الأب الشرعي للموسيقى الكلاسيكية العربية، إن كان التعبير صحيحا. ويقول الباحث المصري أسامة عفيفي إن معظم ما كتب ونشر عنه اهتم بتفاصيل حياته والأحداث التي مر بها أكثر من الاهتمام بموسيقاه، وسبب ذلك أن من كتبوا عنه كانوا من غير الموسيقيين. ومما يدعو للدهشة أنه رغم اعتراف الجميع بفضل الشيخ سيد، فإننا لا نرى أيا من أعماله تدرس أو تبحث في معاهد الموسيقى، وما زالت المناهج الموسيقية الشرقية في مصر، رائدة الفنون، تعتمد على التراث التركي في معظمها. ويقول بعضهم ان السبب أن سيد لم يترك ثروة أكاديمية يمكن أن تعين في صياغة مناهج التعليم والتدريب، ولكن الصحيح أنه ترك ثروة فنية هي الأكبر في تاريخ الموسيقى العربية من ناحية الكيف، إذ إن كل لحن وقطعة وضعها تستحق الدراسة والتأمل، كما نجد في رواياته الموسيقية أكثر من 200 لحن لم تتكرر فيها جملة واحدة، وفيها من اختلاف المواقف ما يكفي لعرض كل حالات الشعور الإنساني وكيفية التعبير عنها، كما أنه أضاف مقاما موسيقيا جديدا إلى الموسيقى الشرقية أسماه «الزنجران»، ولحن منها أساتذة كبار تاليا، وكانت له اهتمامات بتأريخ أعماله، وكتب مقالات في الثقافة الموسيقية للصحف والمجلات، ولكن القدر لم يمهله لأكثر من ست سنوات، هي كل عمره الفني، فقد بدأ في سن 25 ورحل في سن 31، ولم يكن ليتسنى له التفرغ لعملية أكاديمية، وهو بكل انشغاله بإنتاج أعظم ما أنتجته مصر من فن في تاريخها الطويل، ويمكن القول ان ما قام به سيد درويش في مصر يعادل، مع الفارق، ما قام به بيتهوفن في ألمانيا، حيث صعد الاثنان، كل بموسيقاه، إلى القمة. وفي حين مهد لظهور بيتهوفن عمالقة من أمثال باخ وهايدن وموتسارت، فقد ظهر سيد من دون أن يسبقه تمهيد يذكر، وامتد تأثيره إلى كامل المنطقة العربية عن طريق من ساروا على نهجه بعد رحيله، وقد عاصر سيد أواخر العصر الرومانسي الأوروبي، وترامت إلى مسامعه أعمال رواد الفن الموسيقي الأوروبي مثل فيردي، مؤلف أوبرا عايدة. وكان رغم إعجابه بأعمالهم لا يقلدهم، وإنما كانت موسيقاه معبرة تماما عن إحساس الشعب المصري ومزاجه الذي حرم طويلا من ممارسة الفنون الراقية من قبل العثمانيين، وقد تشابه دوره هذا مع دور بيتهوفن، حيث وصف كل منهما بأنه أزال من موسيقى شعبه الآثار الأجنبية، وانتمى إلى موسيقى أمته مباشرة.
وليس أدل على محاولة طمس أعمال سيد درويش إلا جهل كثيرين بألحانه بالرغم من تغنيهم بها، من دون معرفة صاحبها، الذي ظلم في حياته وبعد مماته! ومن ألحانه الشهيرة التي لا تزال حية أغنيته التي يقول فيها:«طلعت يا محلى نورها شمس الشموسة»، أو «الصنايعية» والتي كانت أول أغنية عربية تخرج من نطاق الصالونات، وتتغنى بالإنسان الكادح، ثم لحن «زوروني كل سنة مرة»، الأكثر روعة وشهرة. وأغنية «الشيالين»، ولحن الوصوليين، وآهات «أنا هويت وانتهيت»، وأوبريت شهرزاد، واستهلال «أنا عشقت»، ولحن الجرسونات، كما أنه واضع موسيقى كثيرا من الأناشيد، ومنها نشيد «بلادي بلادي» القومي المصري، وغيرها كثير. فهل تقوم جهة في مصر، في فجرها الجديد، بإعادة الاعتبار له؟
أحمد الصراف
[email protected]
www.kalamanas.com