في الحقيقة، وجدت شخصياً أثناء متابعتي ما طرحه المفكر البحريني علي محمد فخرو في محاضرته التي حملت عنوان: «ما وراء الانقسام الطائفي» بمجلس يعقوب سيادي مساء الثلثاء (2 يوليو/ تموز 2013)، وجدت فيها ما يمكن اعتباره (وثيقة عمل للأمة) تنقذها من كابوس الانقسام الطائفي، وليتها تصل إلى مراكز البحث في الأزهر الشريف، وفي حوزتي قم والنجف، وإلى هيئات علماء المسلمين، لتكون حجر الأساس للقضاء على هذه المحنة الكبرى.
فعلى الرغم من أن الأمة العربية الإسلامية تعيش مرحلة من أسوأ مراحل انهيارها شئنا أم أبينا، إلا أنه لا يوجد مشروع متفق عليه بين علماء الأمة ومثقفيها يقرأ الواقع ويستشرف المستقبل بصورة متعمقة، ونستثني هنا الحكومات لكونها اليوم طرفاً رئيساً في تأجيج الانقسام والتناحر، وذلك يبدو واضحاً من خلال تشجيع حكومات عربية واسلامية لزيادة سطوة ذلك التناحر باستخدام علماء البلاط والاعلام الفتنوي الواسع الانتشار، حتى أن المفكر فخرو اختصر ذلك المسار بالقول: «إن العيش في التاريخ بفهم خاطيء وبصورة مسيئة نراها في المساجد والمآتم والقنوات الفضائية حيث المذهبية والطائفية تستخدم يومياً من أجل أهداف سياسية ومالية ودنيوية، ما يجعل الحل للمشكل الطائفي صعباً، ونبني بذلك إنساناً عربياً مسلماً لديه قابلية ممتازة للطائفية، يلزم حتى نواجهها، أن نتخلص من جوانب مرتبطة بالطائفية كالتاريخ والثقافة والكلمات والأوصاف».
في المجتمع الخليجي والعربي والإسلامي، هناك التجاء مؤجّج للطائفية على حساب مصلحة الأوطان، وسبب ذلك الالتجاء هو الحكومات التي تكرس التصنيف الطائفي والقبلي والعرقي بين مواطنيها. وفي شرحه لمسببات الانقسام الطائفي من هذا الباب سياسياً، لفت فخرو إلى أن «المواطن يحتمي بقبيلته وبمذهبه وبعرقه إذا كان يعيش في مجتمع غير ديمقراطي، ذلك أن الولاءات الطائفية التي تعلو على الولاء للوطن لا تأتي إلا في مجتمع تغيب فيه المواطنة المتساوية، وتغيب فيه المساواة بين المواطنين والفرص المتكافئة، فيضطر المواطن للاحتماء بالطائفية بدرجة لا تقل عن الاحتماء بالحزب والقبيلة كما هو حاصل في بعض البلدان العربية»، انتهى الاقتباس.
تلك الأطروحات العميقة التي أجاد فيها المفكر فخرو، ربطت ما بينها وبين طرح الباحث العراقي حارث حسن في مقال بعنوان: «الولايات المتحدة والشرق الأوسط الطائفي»، فبعد حضوره ندوة نظمتها إحدى مؤسسات البحث الأميركية المهمة وتناولت موضوع الانقسام السني ـ الشيعي وأبعاده الإقليمية، كان هنالك تركيز واضح في النقاشات على أن هذا الصراع الطائفي أخذ يحتل الأولوية في توجيه سياسات المنطقة ويحل محل الصراع العربي ـ الاسرائيلي، وطرحت خلال النقاش أسئلة من قبيل: هل سيؤدي الانقسام السني ـ الشيعي إلى تغيير خريطة المنطقة وتفكيك بعض دولها؟ هل سيُدفع العالم العربي (السني) إلى الانفتاح على «إسرائيل»، تبعاً لقاعدة عدو عدوي صديقي؟ أم إنه سيدفع إيران والقوى الشيعية إلى تخفيف عدائها لـ «إسرائيل» لصالح التركيز على الصراع مع القوى السنية؟».
ولكن، كيف نظر المفكر فخرو إلى التقسيم واللعبة الصهيونية؟ وقبل أن أقدم ما طرحه، أود أن يتأمل القاريء الكريم ما قاله فخرو بشأن أن ظاهرة الانقسام الطائفي لا تهدد المجتمعات من الناحية الاجتماعية والسياسية، ولكنه يهدد الإسلام نفسه! فالذين يعتقدون أن الدين الإسلامي يمكن أن يكون في منأى فهو مخطيء! ولذلك قال: «جربوا التركيز على بعض القراءات وكذلك تكلموا مع بعض الشباب الذين ملوا من هذا الدين الذين يخرج من محنة إلى محنة إلى محنة ولا يقف عند محنة معينة، وهو شبيه بما جرى في أوروبا عندما أصبح الناس ينفضون من حول الدين المسيحي – ليس من الناحية السياسية – ولكن من الناحية الروحية، وبقيت الكنائس خالية لسنين طويلة وإلى اليوم في بعض البلدان. لذلك، فإن الجانب الروحي والديني ينتهي عندما لا يعرف رجال الدين والمؤسسات الدينية كيف تتعامل مع مجتمعاتها إلى أن وصلت القضية إلى النحر كما نرى في سورية والعراق واليمن أو حتى ما نراه في مصر التي لم نكن نتصور أن يحدث فيها انقسام طائفي».انتهى الاقتباس.
الآن، عن الدور الصهيوني في إثارة الطائفية، فإن فخرو يرى أنه مخطط منذ سنين لأن يتم تقسيم المنطقة على أساس قبائلي، وإن لم يفلح يتجهون إلى التقسيم الديني، وإن لم يفلح يتجهون إلى تقسيم آخر فالمهم في نهاية الأمر هو التقسيم، والمطلوب هو قراءة التاريخ قراءةً جيدة بحيث نكون صريحين تماماً ولا نغنغن في تاريخ الانقسام في الدين الإسلامي، ونتعامل معه كتاريخ ولا نخاف من أن يمس هذا الشخص أو ذاك ممن أخطأوا… حتى يعرف الناس ما خفي عنهم. لابد من قراءة المسبب التاريخي والثقافي والتربوي واللغوي فعلى المدى الطويل هناك حل، ذلك أن كل العالم عنده تاريخ يدرسه ويستفيد منه إلا نحن! نصر على أن نعيش التاريخ.. أن نرجع إلى الوراء 1400 سنة ونعيش مثل من عاشوا في ذلك الوقت».
بشكل عام، كما يرى الباحث حارث حسن، يبدو أن واشنطن، وصانعي السياسة ومؤسسات البحث فيها، باتت تعطي جدية أكبر لموضوع الانقسام السني ـ الشيعي وآثاره على الجغرافيا السياسية للمنطقة، وهنالك عدة مشاريع بحثية تجري لاقتراح توصيات للسياسة الأميركية حول سبل التعامل مع هذا الانقسام، ويمكن القول إن الجدل ينحصر بين نظريتين، الأولى تعد هذا الانقسامَ تهديداً، والأخرى تراه فرصة، لكن النتيجة التي توصل إليها الباحث هي أن «الشرق الأوسط الطائفي» يعكس حالة من النكوص السياسي، والاجتماعي، والثقافي، التي تعيشها المنطقة عموماً. وبقدر التهديدات المخيفة، التي يصنعها الانقسام الطائفي، مع هيمنة جيل من النخب السياسية، والدينية، والثقافية، والمالية، التي سلّمت عقولَها لأيديوجيات طائفية، أو وجدت فرصة في الانقسامات المذهبية لتوسيع نفوذها السياسي، هنالك، أيضاً، فرصة لتبلور إدراك واسع لخطورة المنزلق الذي نتجه نحوه، بسبب سيطرة هذه النخب، وفرصة لتبلور تيار بديل، يرى أن تفكيك هذا الصراع يتطلب تفكيك الأسس السياسية، والفكرية، والثقافية، والاقتصادية، التي صنعت هيمنة تلك النخب.