سقى الله أيام كتابة المقالات بالورقة والقلم والشخبطة والسهم الملتوي والأقواس وعلامة بدء الفقرة ووو، واتصالات المصححين للاستفسار عن كلمة استعصت عليهم قراءتها، وقد يتكاسلون أو ينشغلون فينشرونها كما فهموها بخلاف ما أريد، فتقلب رأس المعنى على عَقبه، وتجرح عَقبه الآخر، فتسيل منه الدماء، فألطم ثلاثاً وتخنقني العبرة…
وسقى الله صحافة الأجيال السابقة، عندما كانت المقالة أطول من ليل الشتاء وأسخن من فرن الخباز، ويكفيك مراجعة أرشيف مقالات محمد حسنين هيكل الأسبوعية، التي كانت جريدة الأهرام تنشرها على عمودين في الصفحة الأولى والتتمة تملأ الصفحة الثالثة كاملة… (بالمناسبة، لقرب هيكل من عبدالناصر، كانت الإذاعة تبث مقالاته: "سيداتي سادتي مستمعينا في الوطن العربي إليكم ما كتبه الأستاذ محمد حسنين هيكل في عموده لهذا اليوم بتاريخ كذا وكيت").
أقول سقى الله أيام الورقة والقلم قبل أن يلعب بنا "بيل غيتس" لعبة الدامة، ويجبرنا على الكتابة على شاشة الكمبيوتر، وحفظ كلمات السر، وأنا رجل ينسى، وينسى أنه ينسى، فأكتب المقالة، وأنسى كلمة سر البريد الإلكتروني، فأدخل في حيص بن بيص، وقد يتعطل الجهاز، فيفتح فمه ببلاهة، فأفتح فمي ببلاهة، والبادئ أظلم وأخيب.
وأصبحنا لا نعيش بلا كلمة سر، فبطاقة البنك بكلمة سر، وموقع البنك الإلكتروني يحتاج إلى سبع كلمات سر، والبرامج الإلكترونية كلها بكلمات سر، والبريد، ومواقع الشركات والمكتبات ووو… الشيء الوحيد الذي يمشي عرياناً بلا كلمة سر تستره من أعين المارة وأيديهم هو "الكويت".
لذلك هي مباحة، وقيل بل سداحة مداحة، خطوط طيرانها مباحة، وميزانيتها سداحة، وشركاتها النفطية مداحة ومُتاحة، و"برلمانهم" يعيش في مناحة، بهدف تغيير القيادات الحالية والإتيان بقيادات تتقن اللعب بالخطة البرازيلية ذات التمريرات الماكرة القصيرة.
وما لم نضع كلمة سر معقدة لخزائن الدولة ونفطها وأملاكها، ونمعن في تعقيدها بحروف وأرقام يصعب اختراقها، فسنستيقظ ذات صباح ونبكي على بلد ساح، لم يبق منه إلا "المراح"، والمراح هو الأطلال باللغة الفصحى. لكن اعتمادنا بعد الله على نخبة من الثقات في البرلمان وعلى رأسهم سعدون حماد وخلف دميثير وعبدالحميد دشتي ورولا دشتي وخالد العدوة وعسكر العنزي ويعقوب الصانع وآخرون مثلهم، ويا صدع رأسي صدعاه، باللغة الفصحى. وباللغة الوشحى.