كان بإمكانهم تغليفها بورق السولوفان وإهداؤها لوزير الداخلية، أو تعبئتها في زجاجات ملونة وتقديمها للحكومة في عيد ميلادها، أو تقطيعها وتجزئتها، كأوراق ملونة، ونثرها في الهواء في أعياد الحكومة أو احتفالات طهورها. كان بإمكانهم إدراجها في البورصة، وتدعيم سهمها بأذونات الخزانة، والاقتراض باسمها لحساباتهم الشخصية. كان بإمكانهم الاكتفاء بالتصاريح مع مط البوز وإظهار الشفة السفلى اللامبالية وفتح الكفين إلى أعلى، دلالة قلة الحيلة وعدم القدرة على فعل ما هو أكثر من ذلك، وكنا سنصدقهم.
كان بإمكانهم وإمكانهم، وكانوا سيأكلون الشهد لو فعلوا ذلك… أتحدث عن جمعية حقوق الإنسان وعن شبان مجلس إدارتها الجديد الفتيّ، لكنهم لم يفعلوا ذلك، بل ارتدوا الخوذة و"أوفرول العمل" واستعانوا بحبات العرق ونبضات القلب المتسارعة ليعيدوا إلى الجمعية بهاءها تحت دخان القنابل المسيلة للدموع. وكم اختلطت دموعهم بدموع "البدون" في المظاهرات، وكم زاحموا المتظاهرين على الصفوف الأولى، يراقبون ويحذّرون، وكم تلامست أكتافهم وأكتاف رجال القوات الخاصة في الميادين، وكم كتبت أقلامهم الغاضبة التقارير الصادقة تلو التقارير، فانزعجت وزارة الداخلية وانزعج كل أفاق أثيم.
هذه هي جمعية حقوق الإنسان التي نسمع عنها ونقرأ، هذه هي جمعية حقوق الإنسان كما شرحتها الكتب، هذه هي جمعية حقوق الإنسان التي يجب، ويجب معناها يجب، أن تكرهها الحكومات الفاشلة، ويحترمها دعاة الحريات ويحبها المظلومون. نقطة على السطر.
وكم متربص تربص بمجلس إدارتها الجديد، وكم قاطع طريق كَمِنَ له بين الحشائش، وكم ناقد نقد، وكم قادح قدح، لكن "الميدان" كان شاهداً وكاتباً للتاريخ… ويا سبحان الله، كأننا نقرأ سيرة أمير الشعراء أحمد شوقي، وما تعرض له من "هجوم" شرس شنّه عليه وعلى شعره الفطاحل الكبار طه حسين وعباس العقاد وعبدالقادر المازني وغيرهم، فهمس لجلسائه "لقد أدموا جسدي"، وكيف لا يدميه نقاد عباقرة كهؤلاء، وأخص العقاد منهم، ومع ذا ورغم أنف ذاك أكمل شوقي مسيرته وحاز لقب "أمير الشعراء".
وإذا كنا نشبّه شبان مجلس إدارة جمعية حقوق الإنسان بشوقي، فلن نظلم ونشبه ناقديهم و"حاقديهم" بالعقاد وطه حسين والمازني، ولن نخجل من رفع "عُقُلنا" لـ"أمراء الإنسانية".