جربناكم كثيراً جربونا قليلاً، هذا ما صرح به النائب مسلم البراك في ندوة التيار التقدمي، ففحوى خطابه أن الدولة دفعت ثمناً كبيراً مدة خمسين عاماً في استئثار أسرة الصباح للسلطة، فماذا يمنع أن “تكون الأمة مصدر السلطات” شكلاً وموضوعاً مدة أربع سنوات؟ وهي عمر الفصل التشريعي، وماذا نخسر في هذه التجربة بعد أن خسرنا الكثير في تجربة الخمسين عاماً من الحكم الدستوري، تخللها أكثر من مرة سنوات قطيعة للدستور مثل عام تزوير الانتخابات 67، وحل المجلس عام 76، وعام 86؟ وفي بقية العمر الدستوري ظلت أسرة الحكم تمسك بمفاصل الدولة، وكان (ومازال) هناك “حكومة الحكومة” (وزراء الأسرة) الذين لهم حق النقض “الفيتو” على أي قرار داخل مجلس الوزراء. البراك يطالب صراحة بالإمارة الدستورية، التي لا تكون بغير رئيس وزراء شعبي ليس له الهالة الصباحية، ويدعو كذلك إلى كسر احتكار وزارات “السيادة” للأسرة. في المقابل، هناك من يقول إننا جربناكم “أنتم مجالس النواب”، وكانت كارثة على حريات وحقوق البشر وعلى مشوار التنمية، فقد خرقتم أهم المعايير الدستورية، فأنتم من وضع شرط الدين الإسلامي لمنح الجنسية عام 81، وأنتم من عزلتم الجنسين في مقاعد الدراسة الجامعية، وأنتم من خنق حياة الفكر والثقافة بالدولة حين تسلط التيار الديني على الحياة الاجتماعية، وأصبح شعار الفكر وحرية التعبير والنقد “الأصل في الأمور المنع لا الإباحة”، والمسرح ومعارض الكتاب المزرية تنهض دليلاً على ذلك، حتى أصبحت الدولة خاوية من المعنى، خالية من أي لمسة جمال. وأنتم من وقف ضد مشاريع التنمية والتطوير مثل حقول الشمال، أو المصفاة الرابعة، وخلقتم أجواء من الرعب المالي الذي “طفش” كل أحلام الاستثمار والتطوير. لن أزيد في عرض الكثير من ردود أصحاب هذا الرأي، فقد قال فيه عبداللطيف الدعيج، وإيمان البداح، وإقبال الأحمد على سبيل المثال، ما لم يقله مالك في الخمر. وأهم من كل ذلك أن الرؤوس الكبيرة لممثلي الشعب أقامت الحواجز الطائفية في المجتمع الكويتي، وشككت ظلماً وتعالياً عنصرياً بولاء الشيعة للدولة، وكأنهم ليسوا من أهل البلد، ولم يكن لهم دور كبير في تحقيق هويته الوطنية. هناك أيضاً كثيرون، يرتدي بعضهم أثواب “الانتلجنسيا” (يعني أهل فكر) لا يترددون في إثارة ذلك السؤال الخاوي حين تنتصر مثلاً لمسلم البراك أو فيصل المسلم في قضية الإيداعات مثلاً: هل تريد أن يحكمك مسلم البراك أو أحمد السعدون! أرفض مثل هذا الرأي، فالحكم الدستوري الصحيح لا يعني أن يحكم البراك أو السعدون، ولا يعني أن تستبد الأغلبية المتزمتة في طرحها وتهدم أمن الدولة بعد أن أحرقت حياتنا الاجتماعية، ففي النهاية فإن عبارة “الأمة مصدر السلطات” تعني كل الأمة، وليس فريقاً دون آخر، والبراك يمثل الشعب مثلما يمثله عدنان عبدالصمد أو غيرهما من ممثلي الشعب، والسؤال ليس من “هو” الذي سيحكم الشعب، وأي إلى قبيلة أو عائلة ينتمي؟ فهو الشعب الذي سيحكم نفسه بنفسه كأولى أوليات الحكم الديمقراطي، وإنما السؤال الواجب هو كيف يمكن أن تدار أمور الحكم؟ فالسنوات القليلة الماضية أوضحت بجلاء سوء الإدارة السياسية في الدولة التي تمثلث في تردي الوضع المالي للدولة رغم وفرة الاحتياطي، والمسؤولية هنا مشتركة بين مجلس غابت عنه الأولويات وغرق في خرق أبسط الحقوق الدستورية للمواطنة، وحكومات ضعيفة مفككة ليس لها رؤية للمستقبل، ووقفت لا مبالية أمام الخطاب المتزمت الأصولي، فماذا فعلت تلك الإدارة السياسية حين سلط المتزمتون سيوفهم على رقاب الناس وصادروا الحريات الشخصية للبشر، وأمعنوا في طرحهم الطائفي أحياناً، وهمشوا فئات (ونخباً) اجتماعية من الوجود، لم تفعل تلك الحكومات شيئاً وكأن الأمر لا يعنيها، وفي الوقت ذاته لم تقف تلك الحكومات بقوة تدافع عن مشاريع التطوير والتنمية، إن قدمت أياً منها! لنستطرد قليلاً هنا، ونعيد ما ذكره النائب الداهوم في ساحة الإرادة، قبل فترة، بأن الكويتيين هم البحارة والبدو الفرسان! فماذا يعني ذلك غير نفي الطبقة التجارية وتاريخها بكامله، ويبدو أن عبارة “الفساد والمفسدين” خصصت لهم في خطاب المعارضة، وماذا يعني خطابه غير نفي كل أصحاب الحرف والمهن التي أسست هوية الدولة من قلاليف وأستاذيه، وهم من بنوا سفن الغوص وبغلات التجارة وغيرها من خبابيز وصناع وصفافير! إذا لم يكن مثل هذا الخطاب فاشياً متغطرساً من ألفه إلى يائه فماذا يكون؟! الحكم الديمقراطي بمقتضى الدستور مسألة واجبة، ولكن قبل ذلك يتعين على دعاته تصفية صفوفهم من شوائب العنصريين والطائفيين قبل الحديث عن الحكم الدستوري الكامل الدسم.