وأخيراً، هبطت الطائرة متأخرة عن موعدها نحو ثلاث ساعات.. حول ممر الحقائب تجمهر المسافرون، وبين كل دقيقة وأخرى كان يسرق نظرة إلى ساعة يده، ويعضّ شفته السفلى متبرماً من ضياع كل هذا الوقت.
سحب حقيبته خلفه في اتجاه بوابة الخروج، فلمحَ لوحة معلقة على أحد المكاتب “المفقودات”، فتبسم، وتوقف برهة، مثبتاً عينيه على حروف اللوحة، ومن دون أن يشعر أو يفكر وجد نفسه أمام شباك المكتب، متخطياً فوضى الحقائب الملقاة على الأرض لتؤكد لك أنك في الوطن العربي..
أسند مرفقيه على حافة الشباك، وأراحَ حَنكه على أصابعه المتداخلِ بعضُها في بعض، وانطلق السؤال منه على هيئة زفرة كانت مكبوتة لسنوات: “كيف أجدها؟” فجاءه الرد، من الموظف المنهمك في أوراقه، فاتراً بصيغة سؤال: “كم واحدة؟” فأجاب فوراً وكأنه يقسم، وكأنها تسمعه: “واحدة.. واحدة فقط.. فقط”، فرفع الموظف عينيه مستغرباً طريقة حديث المسافر: “معاك (الليبل) والتذكرة؟”، فهز رأسه دلالة عدم وجود الليبل، فجاءه الرد الحاسم: “لن نتمكن من مساعدتك.. في المرات القادمة احرص على الليبل”، فاستدار المسافر معطياً الموظف ظهره، وهو يبتسم ويغمغم ويتنهد: “شكراً.. شكراً.. سأفعل”.
في الطريق إلى بوابة الخروج راح يسترجع الأحداث كالشريط السينمائي، ويتذكر تفاصيل التفاصيل.. ضحكاتها.. حركات يديها.. خطواتها على رؤوس أصابع قدميها وهي حافية.. طريقتها المميزة في رفع، أو قل دفع خصلات شعرها عن عينيها.. رائحتها.. رائحة قهوتها وطريقة تقديمها لها: “إن كنت سأغار فليس إلا من هذه القهوة.. أغار من عشقك الجنوني لها، وأعشقها لعشقك الجنوني لها”..
يغمض عينيه بابتسامة تستجدي الدموع عسى ألا تفضحه أمام مفتشي الجمارك والمسافرين ومستقبليهم.. ويواصل التذكر.. كتابه الذي كان بين يديه، وكيف استطاعت، هي، برشاقة وأنوثة الدخول بين يديه وكتابه!.. طريقتها في التعامل مع انفعالاته ولحظات غضبه وهو يتحدث في الهاتف مع أحدهم.. كانت تنسحب بهدوء، وتدير آلة التسجيل على إحدى أغنياته المفضلة، وتلوذ بالمطبخ.. تعبث بأي شيء حتى تتأكد من ابتعاد غيمة الغضب عنه، فتعود.
كان كل ما فيها ومنها مميزاً، يشهد الله.. صبية لا تُنسى.. ثقتها بنفسها جنونية.. كانت تعلم عن “عينه الزايغة” فأطلقت عليه لقب “مستر هارون”، نسبة إلى أسطورة “هارون الرشيد وجواريه”.. وتمعن في الغنج، وهي تضع قبضة يدها على باطن اليد الأخرى لإغاظته، بطريقة طفولية تصيبه في مقتل: “ستموت قبل أن أقول لك أمرك يا مولاي”.
أمام بوابة الخروج من المطار، كان يبتسم تطبيقاً لمبدأ “الهجوم خير وسيلة للدفاع”، خشية انهمار دموعه، ليقينه أنها إذا ما انهمرت فلن يوقفها شيء.. وكلما ازداد ألماً وأوشكت دموعه أن تتمرد اتسعت مساحة ابتسامته المخنوقة وابتلع ريقه..
رمى نفسه على الكرسي إلى جانب السائق، مكتفياً بهز رأسه رداً على عبارات الترحيب التي بالغ الأخير بنثرها على مسامعه.. وراح يتذكر محادثته مع موظف “المفقودات”، فقهقه بصوت مسموع هذه المرة وهو يردد جملة الموظف الأخيرة بعد أن غادره “احرص على الليبل”.. ويخاطب نفسه، وهو يكشف جيوب بنطلونه من الداخل، ومحفظة نقوده، مشركاً السائق المرتبك في الحديث: “ضاع الليبل.. و.. ضاعت”.