مصادفة الجوع قادته وقادتني إلى الالتقاء في مطعم، فانهمرت أسئلته، بسرعة سبعين سؤالاً في الدقيقة، يطرح سؤاله الثاني قبل أن يُنهي سؤاله الأول، والثالث قبل أن يشرح الثاني، والعاشر قبل أن يجف دم التاسع، وكلها تحت مظلة واحدة وإن تعددت أشكالها وأحجامها: “وين رايحين؟”، فأجبته مشفقاً على حنجرته وعروق رقبته: قبل كل شيء، نحن توقفنا فلا تخف، بل عدنا إلى عام 2009 كما تعرف، وسأدع المجال لكتب التاريخ لتجيب عن أسئلتك. قلت له، وأضفت: تعال نسترجع التاريخ، العسكري تحديداً، فالسياسة حروب ومعارك كما تعرف، لنستشرف النتائج… وفي التاريخ العسكري، وفي حروب الأزمنة القديمة والمتوسطة، يحدثنا الرواة في كتبهم عن تكتيكات استخدمها ثلاثة من أشهر القادة العسكريين كانت من أسباب تفوقهم، الأول هو السلجوقي المفترس “ألب أرسلان” الذي أسقط بيزنطة بجلالة جيشها وعتادها (كان قائداً للجيش وأصبح واحداً من أعظم سلاطين الإمبراطورية)، والثاني، ابن عمه، التركي أيضاً، مصطفى كمال أتاتورك (أصبح رئيساً)، الذي حرر بلاده من احتلال دول ست، قبل أن يؤسس تركيا الحديثة لتنافس أعظم الدول في عصره، والثالث هو الثعلب الألماني روميل (بطل الحرب العالمية الثانية، وإن هُزم فيها لأسباب يعرفها الرضيع قبل المسن… ولا أدري لمَ لُقب بالثعلب وليس الذئب)، هؤلاء الثلاثة لوّحوا بيد الوداع للدنيا، لكن بطولاتهم مازالت تُقرأ وخططهم تُشرح وعقائدهم العسكرية تُدرَّس… الثلاثة اتفقوا، من دون أن يتفقوا، على أساسيات أهمها أن احترافية الجيش تظهر في أوقات ضعفه لا تفوقه، وأن دهاء القادة يظهر في وقت الانسحاب لا الهجوم! واتفقوا على أن التقدم يجب أن يكون بطيئاً سُلَحْفِيّاً قدر الإمكان، لأسباب نفسية وتكتيكية، إلا في الحالات الاستثنائية… إضافة إلى جزئية هامة، اتفق عليها الثلاثة، وأجاب عنها أرسلان عندما سُئل عن سر تفوقه المبهر في ظرف سنوات قلائل، فأجاب: “أتقنت اختيار قادة جيشي، واستعنت بالمخلصين الدهاة ذوي الصبر والجلَد”. والآن دعنا نقارن بين فريقي الحرب السياسية، السلطة والمعارضة، وتعال نسأل أنفسنا: أيّ الفريقين يتقدم صفوفه المخلصون الدهاة من ذوي الصبر والجلد، وأيهما يتكدس في صفوفه الأولى غثاء السيل؟ وأي الفريقين يجيد التقدم والانسحاب؟ وأيهما يُبدي احترافية وتماسكاً حتى في لحظات ضعفه؟ إذا أجبت عن هذه الأسئلة، قلت له، فستعرف لمن ستكون الغلبة في النهاية، وإلى أين نحن ذاهبون.
اليوم: 7 أغسطس، 2012
سؤال محير.. من هم العرب إذن؟!
٭ منذ حدوث النكبة في فلسطين عام 1948 والاخوة الفلسطينيون يلومون بشكل دائم «العرب» على ما حدث لهم، ومن ثم عرفنا بالبديهية ان الفلسطينيين ليسوا عربا، كون العرب هم الآخر الذي ضيعهم.
٭ مع قيام الحرب الاهلية اللبنانية عام 1975 وما بعدها، قال اللبنانيون بساستهم واعلامييهم ومفكريهم ان «العرب» هم سبب تلك الحرب المدمرة التي خاضها اللبنانيون بالنيابة عنهم، وبذا علمنا ان الشعب اللبناني ليس عربيا، فالعرب هم الآخر الذي دمرهم.
٭ وعندما وقع الرئيس السادات اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 وقاطعته الدول العربية، شن الاعلام المصري حملة شرسة على «العرب» الذين يريدون محاربة اسرائيل لآخر جندي مصري، وعلمنا في حينها ان المصريين ليسوا عربا الذين هم كذلك الآخرون الذين يريدون الاضرار والاساءة لمصر.
٭ غزا صدام الكويت عام 1990 وهدد الدول الخليجية، فكفر الكويتيون والخليجيون بـ «العرب» الذين وقفوا مع صدام، وبذا عرفنا ان الكويتيين والخليجيين ليسوا عربا لعدم وقوف المفكرين والاعلاميين العرب معهم.
٭ منذ تحرير العراق من الاحتلال الصدامي عام 2003 والاخوة في العراق يلومون «العرب» على كل ما فعله صدام بهم، وبذا لا يمكن اعتبار العراقيين عربا.
٭ قام امين الامة العربية معمر القذافي بالهجوم في اكثر من خطاب على «العرب»، واعلن انتماءه الافريقي، كما لام اتباعه «العرب» على الثورة التي قامت ضد ملك ملوك افريقيا، وبذا ثبت ان الليبيين ليسوا عربا، وامتد الامر لدول شمال افريقيا التي بدأت هي الاخرى تتنكر للعروبة وتفخر بانتمائها الامازيغي والبربري والافريقي.. الخ.
٭ مع قيام الثورة في سورية ونحن نسمع من بعض ثوارها كفرهم بـ «العرب» الذين تركوهم لمصيرهم، وبذا انضم الشعب السوري بأغلبيته للشعوب غير العربية والتي كفرت بالعروبة.
٭ الامر كذلك في السودان بعد انفصال جنوبه، حيث تم القاء اللوم على «العرب» لعدم وقوفهم مع النظام في حربه الشعواء ضد قوى الجنوب.
السؤال البسيط والمستحق بعد كل ما سبق: اذا كانت كل تلك الشعوب والانظمة تهاجم «العرب»، اي انها ليست عربية، فمن هم العرب اذن؟ سؤال يحتاج الى اجابة!
***
آخر محطة:
1 ـ واقع الحال يظهر ان «العرب» هم آخر الهنود الحمر المنقرضين مع فارق اساسي هو ان الهنود الحمر كانوا اكثر ذكاء حيث لم ينسلخوا عن جلودهم ويلوموا «الهنود الحمر» على ما جرى لهم!
2 ـ ومعلومة بسيطة: اراضي الشعب المريخي المسمى بالشعب العربي اصبحت كأموال الايتام على مائدة اللئام تتخاطفها الامم من كل جانب، وبعض مفكري تلك الامة مازال يلوم الأعداء العرب على ما يجري للعرب.. ويا له من ذكاء اخجل اهل الغباء من امم الارض الاخرى.
لا هولندا بعد اليوم (2-2)
تشتهر النيذرلندز بكونها واحدة من أكثر دول العالم إيماناً بمبادئ الحرية، وربما جاء ذلك كرد فعل لتاريخها الاستعماري السيئ! فبالرغم من أسبقيتها في تحريم المتاجرة بالرقيق، عام 1863. (وكنا في الخليج بعد ذلك التاريخ بمائة عام لا نزال نتعامل به)، فإنها لم تستطع أن تغفر لنفسها تاريخها الاستعماري السيئ، ومعاملتها غير الإنسانية لسكان مستعمراتها ومع الرقيق، ولا شك أن هذا خلق لديها ردة فعل بحيث أصبحت أكثر دول العالم «إنسانية» في التعامل مع الآخر! علماً بأن تحريم الاتجار بالرقيق أدى في حينه لبداية تدهور أوضاعها الاقتصادية، وصاحبه تأخر في اللحاق بالدول الأوروبية في مجال تطوير صناعاتها، وهذا أدى إلى تأخر ثورتها الصناعية! كما ساهمت حروبها مع الإنكليز والتي خسروها جميعاً، في استيلاء هؤلاء على أغلبية مستعمراتهم في أميركا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا وغيرها. وأكملت فرنسا المهمة واحتلت بلادهم مع نهاية القرن 18 في عهد نابليون، ونقل حاكمها الفرنسي، شقيق نابليون، العاصمة إلى أمستردام! ولكن بعد زوال الاحتلال أبقى الدتش، بما عرف عنهم من ميل للحلول الوسط، أمستردام كعاصمة، ولكن نقلوا مقر الحكومة ومؤسساتها لـ «لاهاي»، والتي تعرف، أيضاً، بعاصمة «الشرعية الدولية».
برع النيذرلندرز في صناعة السفن الضخمة التي سهّلت لهم عمليات استكشاف أعالي البحار، ومكنتهم، أيضاً، من تنمية تجارتهم على حساب صناعاتهم ومنتجاتهم الزراعية، إلى أن جاء وقت ارتفعت فيه قيمة عملتهم لدرجة كبيرة بسبب النمو الكبير في مداخيلهم من هذه العمليات من التجارة والخدمات، وهذا أدى إلى رفع تكلفة منتجاتهم الصناعية والزراعية، ولم تجد بالتالي من يشتريها بسبب غلاء أثمانها، وهذا ما عرف بعد ذلك بـ «مرض الدوتش» Dutch disease، وهي تجربة لا تزال تدرس في الجامعات.
زيارة أمستردام، أو فينيسيا الشمال، متعة لا تضاهى، فهي مدينة جميلة وفريدة من نوعها، ان بشبكة قنواتها الواسعة أو بجسورها وقناطرها القديمة التي تجعلها مدينة شاعرية وخلابة هذا غير ما يجري تحت أراضيها من تقنية عصرية ومتقدمة.
يعتبر الدتش شعباً مسالماً، وعرف عنهم تقبلهم لثقافات الآخرين وسهولة التعايش معهم، ولا نجدهم بالتالي يتصرفون بطريقة عدائية مع الغريب والعكس هو الصحيح، نقول هذا بالرغم من النجاح الكبير الذي حققه اليمين المتطرف في الانتخابات الأخيرة بسبب دعواتهم المعادية للأقليات الإسلامية، وربما لا يلام البعض على مواقفه المتطرفة، فقد أساء بعض قادة المسلمين لحريات التعايش ومارسوا التمييز السلبي ضد المرأة في مجتمعاتهم، وتصرفوا معها وكأنهم لا يزالون يعيشون في سابق مجتمعاتهم التي هربوا منها بحثاً عن.. الحرية! وأظهر نجاح النائب المتطرف ويلدرز حجم العداء الذي أصبح يتفاقم تجاه الغرباء، وزاد الأمر سوءاً الزيادة الكبيرة في أعداد العاطلين عن العمل بين أبناء البلاد الأصليين.
ورداً على بعض «جماعتنا» عن أسباب فشلنا في الصناعة من أنهم يكتفون بحمد الله وشكره، لأنه سخّر لهم الغرب ليصنع لهم كل شيء، فإنك عندما تسير في شوارع أمستردام تشعر وكأن شعبها يشكر الله ويحمده، لأنه سخّر لهم العرب والمسلمين للقيام بخدمتهم وأداء الأعمال المتواضعة نيابة عنهم!
أحمد الصراف
[email protected]
www.kalamanas.com