أواه لو كان المذيع الأميركي الساخر بيل ماهر كويتياً، أو على الأقل عرف بما يحدث عندنا، وعلق عليه في حلقته الأسبوعية، أو حتى في المسرح، كما يفعل في أيام العُطل. ولمن لا يعرف صاحبنا ماهر نقول له: هو ملحد ملعون مُجدِّف، يهاجمه الجمهوريون وحزب الشاي (الحزب الثالث في أميركا والمعروف بعنصريته، ورافع شعار عيال بطنها) ويخشونه لاتساع رقعة جماهيريته، ويتبرأ منه بعض الديمقراطيين لسلاطة لسانه وصراحته الحادة والحارة، التي تحرجهم أحياناً، وإن كانت غالبيتهم تحبه (كان قد وصف مفجري برجَي مانهاتن، من أنصار بن لادن، بالشجعان، رغم كرهه لهم، على اعتبار أن قيادة طائرة للاصطدام بالبرج شجاعة قصوى “يجب أن نعترف بذلك”). ولا أدري كيف كان سيعلق على أوضاعنا المحلية لو اطلع عليها، وماذا كان سيقول عن شعب لم يحاسب أحداً على “كارثة الغزو والاحتلال”، ولا ماذا سيقول عن شعب لا يرى البحر إلا في الخريطة بعد أن استحوذ عليه أحفاد قارون، ولا بماذا سيعلق على شعب يسكت عن خضوع الحكومة وخنوعها أمام شركات الاتصالات (الحقيقة أنها شركة واحدة) ترفض النقل الحر للأرقام، وتتعامل بمنهج السادة والعبيد مع المستهلكين، ولا أدري كيف سيضحك ماهر وهو يعلق على طريقة نصب شركات الإنترنت على المواطن الذي يستنجد بالحكومة ووزير مواصلاتها فيكتشف أن الحكومة التي “يبي منها العون” هي “فرعون”، ولا يمكن أن أتخيل منظر ماهر وهو واقف على المسرح يحد لسانه، الحاد أصلاً، ليتناول (تصلح يتناوش، ويتناهش أيضاً، إذا تغاضى عني حماة اللغة) موضوع رشوة نواب البرلمان، وكيف انقلبت الأمور لتتم محاسبة من اكتشف الرشوة لا من قام بها، هاهاها… يفعل ماهر ما يفعله ويقول ما يقوله في بلد يجهل جزء كبير من مواطنيه أسماء أعضاء الكونغرس بجناحيه (النواب والشيوخ)، وتفشل خمس من متسابقات “ملكة الجمال” في معرفة اسم نائب الرئيس “جو بايدن”، رغم أن الثقافة أحد أهم عوامل الفوز في مسابقة الجمال. ولا عجب في جهل الأميركان سياستهم المحلية، بل والعالمية أيضاً، فهُم يثقون بساستهم ويعلمون أنهم (الساسة) يتعاملون مع الشعب كما تتعامل الدجاجة مع بيضها، إذ تنعزل عن محيطها، وتخسر أصدقاءها، وتتفرغ لبيضها فتبرك فوقه واحداً وعشرين يوماً بالتمام والرفاء والبنين، في حين تتعامل حكومتنا مع الشعب كما تتعامل السلحفاة مع بيضها، تضعه على الشاطئ وتعود إلى البحر لتستأنف حياتها وتترك البيض يواجه قدره ومصيره… إلا أن حكومتنا لم تتركنا على الشاطئ وتعد إلى البحر بل أرشدت “حيوانات الراكون” إلى مكاننا. ولهذا، لهذا فقط، يتابع الشعب الكويتي كله تفاصيل التفاصيل السياسية… ولهذا أيضاً نحتاج إلى أن نفعل ما يفعله بيل ماهر في بعض السياسيين.
اليوم: 31 يوليو، 2012
لا خيار غير تجرع علقم المعارضة
هي سلطة شريم تنفخ و”ما ميش برطم”… بكلام ثانٍ السلطة تحفر في البحر، حين تعجز عن هضم مجلس ٢٠١٢ المبطل، وتجهد نفسها في البحث عن بدائل يمكن أن تعيد ذكريات زمان، ومجالس أغلبية شعار الشيوخ أبخص والجيب أوسع. على السلطة أن تدرك في النهاية أنها مهما حاولت اللعب بأوراق الانتخابات، فالنتيجة واحدة، فهي إما أن تنحني لرياح التغيير أو تعاند وتتهشم عندها أغصانها، فبدائرة واحدة أو مليون دائرة وبصوت واحد أو بمليون صوت، شريم الكويتي ابن السلطة سيظل أشرمَ عاجزاً عن النفخ من فم السياسة، وبعض “التحف” النيابية التي نجحت في المجلس المبطل ستغير بدلها ولون جلبابها (ربما) وتعود من جديد. سيعود “فولتير” وروسو” وبقية الرموز التقدمية إلى كراسيهم، ولو بأسماء أخرى، ولا فائدة من محاولات إعادة إخراج مسرحيات تحصين الدوائر الخمس أو تبديل عدد الأصوات في دوائر جديدة، فليس في القدر الكويتي غير أهل الكويت الذين تغير وعيهم السياسي، فسُنة الحياة التغيير والتبديل، بينما تتصور السلطة أن الدولة ثابتة كالطود الراسخ، وهي قمة من القمم العربية في الديمقراطية والحريات السياسية، في حين أن الحقيقة تقرر أن قطار الديمقراطية في دول الربيع سبق الكويت بمشوار طويل، والكويت أكثر الدول الخليجية –المحافظة – الأكثر عرضة للتغيير المقبل بسبب حراكها السياسي في السنوات الماضية قبل ثورات الربيع. التقدميون، أكثر من السلطة، يصعب عليهم قبول مثل تلك المجالس المتطرفة في محافظتها وفي مزايداتها على المشاعر الدينية للكويتيين، لكن هذا لا يبرر أن نتبنى الطرح الحكومي حين تقوم الحكومة بالتشكيك في الدوائر الخمس وتتعذر بغياب العدالة في توزيع أصوات الناخبين بين الدوائر، فهنا سيُظهر التقدميون أنفسهم على أنهم مجرد أبواق “العقلانية” للحكم بالظاهر، بينما هم عملاء مستفيدون للفساد الرسمي، طبعاً هذا غير صحيح، فالكثير من التقدميين مخلصون لقضية بلدهم ولقضية الحريات العامة والخاصة، وليسوا شللاً منتفعة لـ”المناقصات، والتوزيعات الخاصة”، لكن ما باليد حيلة، فهم قلة، وسيبقون قلة في الكويت والوطن العربي لسنوات ممتدة. واليوم حين وجدوا أنفسهم في حالة حصار بين مطرقة الحكم وسندان القوى الدينية السائرة عكس حركة التاريخ، ليس من المفروض أن يحتموا بالنظام، وهذا واقع الأقليات (أياً كانت تصنيفاتها) في جُلّ الدول المتخلفة التي لم تصل بعد إلى مفهوم الدولة الأمة كواقع اجتماعي قبل أن تكون الدولة كواقع سياسي، والتي لم تنضج إلى مستوى مفهوم وحدة المواطنة، وتهميش الانتماءات الطائفية والقبلية والعرقية. السلطة تُغرق نفسها، وليس من مهمة التقدميين أن يرموا بطوق النجاة إليها متى أصرت السلطة على رفض تجرع مرارة مجالس المعارضة…. علينا أن نمد اليد إلى أصوات من القوى الدينية هي خافتة اليوم، لكنها تتكلم ولو بكثير من الحياء عن رفضها لأطروحات المتزمّتين من فصيلة الطبطبائي ومحمد هايف وأسامة مناور، ويمكن أن نجد عند الحركة الدستورية بعض الأصوات الجيدة التي تقف على يسار الحركة، كذلك الأمر حتى مع التجمع السلفي، وهناك بالطبع التكتل الشعبي، الذي مهما قَيدت قواعده الانتخابية القبلية والمحافِظة يديه وطرحه للتحديث، إلا أنه في النهاية ليس محسوباً على المتشددين الدينيين ودعاة الدولة الدينية… ليس لنا خيار آخر… ففي النهاية لا نريد للقلة التقدمية المتقلصة أن تحفر في البحر مثلها مثل الحكومة.
البدلة والجبة والاحترام
يسعى البشر طوال حياتهم لخلق الاحترام لأنفسهم، بصرف النظر عما يمتلكون من ثروات أو مواهب! وقد تكرر عبر التاريخ الحديث عن دخول رجال أثرياء لعوالم عدة، كالسياسة، بحثا عن دور او احترام لم يستطع المال جلبه لهم، والاحترام يجر بالتبعية المكانة الاجتماعية، وما يسري على الغني يسري على ما دونه ثراء، فهؤلاء في سعيهم لتأمين عيشهم يبذلون جهدا في عدم الإفراط بكرامتهم، إن استطاعوا!
وهناك طبقات في المجتمع تشعر في بداية حياتها بالدونية، وأنهم أصحاب مكانة اقل، وللتغلب على ذلك نجدهم يبحثون عن عمل يوفر لهم وقارا اجتماعيا لا توفره لهم مهن أخرى، وإن كانت أكثر كسبا للمال أو أكثر صعوبة في الأداء. كما يبحث هؤلاء مع الوقار الاجتماعي لمكملاته من «زي شرعي» أو بدلة رسمية، والتي تعطيهم إما «هيبة السلطة»، أو الحق في التحدث دون اعتراض الغير على أقواله، حتى وإن كان كلامه بلا معنى أو منطق!
وقد روى لي صديق من عائلة السياسي السلفي خالد سلطان، أنه دعي يوما من قبله للاستماع لأحد قادة السلف، الذي منح الجنسية اخيرا «لجليل خدماته»، وعندما رفع يده في نهاية المحاضرة طالبا التعليق قام السيد سلطان بإنزال يده بقوة قائلا: أنت هنا في حضرة قمة، ولتستمع فقط، وليس لكي تسأل}!
نعود ونقول ان ما يفرضه رجل الدين من احترام على من حوله لا يعود غالبا لما في كلامه من علم ومنطق، بل لما للهالة الاجتماعية التي اكتسبها، بحكم القانون والعرف، والتي لا تسمح بمجادلته، أو بسبب جهل مستمعيه لما يقوله، أو لعدم رغبتهم الدخول في نقاش يعلمون مسبقا أن الغلبة فيه ستكون لمن درس وتمرس في علم الكلام والجدال! وبالتالي نجد أن الحكومات، وبإيعاز من المؤسسات الدينية، التي غالبا ما تضفي الشرعية الدستورية على طريقة حكمها، تقوم بتحصين مكانة رجل الدين، المعاصرة والتاريخية، بقوانين تجعل من مجرد التعرض لهم بالقول جريمة كبرى.
وتحصين مكانة رجل الدين والشخصيات الدينية التاريخية لم يأت فقط من منطلق مصلحي على قاعدة «شيلني واشيلك»، بل وأيضا لتعلق وظائف و«أكل عيش» الملايين بها! ولو واجهنا اي رجل دين بأي قضية دينية شائكة، كالحمل المستكن مثلا، فإنه سرعان ما سيطالب بقبول الأمر كما هو وتحريم النقاش أو المجادلة فيه، أو يسعى لاتهام من يجادله بتهمة ما.
والحقيقة أن هذا الفزع أمر غير مبرر! فعندما قام منتج اميركي مغمور بإنتاج فيلم «آخر إغراءات المسيح» قامت الدنيا عليه، مطالبة بمنع عرض الفيلم ومعاقبة الذي وراءه، ولكن كبير أساقفة إنكلترا تدخل لمصلحته قائلا ان الدين المسيحي لا يستحق أن يبقى إن كانت فكرته برمتها مهددة بفيلم لم يكلف انتاجه أكثر من 5 ملايين دولار!
وبالتالي، نرى أن الإسلام انتشر وتوسع، ولا يزال الدين الأكثر وتيرة انتشار، ولم تؤثر فيه نوائب كبرى طوال 14 قرنا، وهو لم يكن يوما في خطر، وما نحتاجه بالتالي هو فتح باب النقاش الحر أمام الجميع، والتخلي عن القوانين التي تجرم مناقشة قضايا مفصلية.
فتقدم أوروبا الغربية، والغرب عموما، لم يحدث لولا إيمانها بالحرية، فلا تقدم هناك بغير حرية، ولا ديموقراطية بغير حرية، ولا حرية بغير حرية المعتقد! ولكن يبدو أنني أكلم الجدران من حولي.
أحمد الصراف