أصدرت محكمة ألمانية في مدينة مولون حكما بعدم قانونية عمليات ختان الذكور التي تجري في ألمانيا! ومن سيتأثر بهذا القرار هم يهود ومسلمو ألمانيا، وقلة غيرهم، وقد اعترض هؤلاء بشدة على الحكم، وطالبوا الحكومة بوقف هذا التعدي على حقوقهم، وفق تعبيرهم! وقال قادة يهود ان هذا الحكم هو الاشد بعد الهولوكوست، وأن ما ذكرته المحكمة من ان اخضاع الاولاد لعملية ختان هو تعد على حقوقهم الانسانية، هو عكس ذلك تماما، وليس في الامر جريمة وتعد جراحي على جسد من لا ارادة له! وذكر الراباي غولد شميدت بأنه لا يرى مستقبلا لليهود في ألمانيا، ان اصرت المحكمة على قرارها ولم يعترض عليه. وما جعل الوضع اكثر سوءا هو ما بينته استقصاءات الرأي من ان غالبية الألمان يؤيدون حكم المحكمة، وهذا ما تسبب في اصابة كثيرين بصدمة مؤلمة، وما يعنيه من ان المسلمين واليهود غير مرحب بهم في المجتمع الأوروبي!
***
سخر بعضهم من إيماننا بــ «العلمانية»، والتي تعني اساسا فصل الدولة ونظامها السياسي عن الدين، ولم يعلم هؤلاء بأنها وحدها، كما ذكر الراحل حامد نصر ابو زيد، التي يمكن ان تفتح آفاقا للحرية والعقلانية وتعدد المعاني، فالدين شأن المتدينين، ومهمة الدولة ان تضمن حرية الجميع، وتحمي بعضهم من بغي الآخر باسم الدين. لكن العلمانية لا يمكن ان تتأسس من دون اصلاح ديني، وهذا ما لم يتحقق حتى الآن، بل تحقق في اوروبا القرن السادس عشر، ولم تحدث عندنا ثورة فلسفية كالتي احدثها فلاسفة اوروبا، تلك الثورة التي على اساسها تحققت الثورة الاجتماعية والسياسية التي ارست مفهوم «المواطن»، وأحلته محل مفهوم «الرعية»، السائد في مجتمعاتنا! وتزداد الاهمية يوما عن يوم لفصل الدين عن الدولة، فإذا نظرنا حولك سنجد النتائج المأساوية لهذا الزواج الكاثوليكي المحرم بين الدولة والدين في عالمنا العربي، فالدين، وفق قول ابو زيد، لا تستخدمه الجماعات الراديكالية او الاسلاميون فقط، وانما الدولة، وهذا امر يعود تاريخه الى النصف الثاني من القرن العشرين. وفصل الدين عن الدولة غير فصل الدين عن المجتمع، فهذا ما لا يمكن ان يتم، فالدين، تاريخيا، مكون اجتماعي، وليس مجرد مكون شخصي او فردي. وقد يبدأ الدين كذلك، اي يبدأ تجربة شخصية فردية، وقد يظل كذلك في بعض التجارب. لكن بعض التجارب الدينية الشخصية الفردية يتم تحويلها الى تجربة مشتركة تخلق جماعة، تصبح مجتمعا ثم تتطور الى «امة». في هذه الحالة الاخيرة يصبح الدين قوة وشيئا لا يمكن انتزاعه من المجتمع. ولكن الدولة ليست المجتمع، بل هي الجهاز الاداري والسياسي والقانوني الذي ينظم الحياة داخل المجتمع. واذا كان الدين قوة اجتماعية، فهو ايضا ليس المجتمع، فالمجتمع جماعات واديان. ومن حق هذه المجتمعات على الدولة، وهذا جمال العلمانية ورونقها، والذي لا يريده المتخلفون، ان تحمي بعض الجماعات من افتئات جماعات اخرى على حقوقها. من هنا فدور الدولة، كجهاز منظم لسير الحياة في المجتمع، اي مجتمع، المتعدد الاديان او المذاهب والانتماءات بطبيعته، يجب ان يكون محايدا، وهذا لا يتم بغير ألا يكون للدولة دين تتبناه وتدافع عنه وتحميه، فدورها هو حماية الناس، لا حماية العقائد، فالدولة لا يصح ان يكون لها دين، فهي لا تذهب الى الجامع ولا تصلي ولا تحج، بل هي مسؤولة عن المجتمع بكل مكوناته، بما فيها الأديان.
أحمد الصراف