ناولني الصديق فؤاد زيدان سيجارا كوبيا فاخرا فاعتذرت عن قبوله، فاستغرب ذلك لمعرفته بعشقي للسيجار، وسألني عن سبب الرفض فقلت له، وأنا أرفع صوتي ليسمعني، وسط كل صخب الموسيقى والغناء في مربع «اللودج» الفاخر، بأنني سأرد عليه في مقال يحكي علاقتي بالسيجار الكوبي، وقبلها بالسيجار الكويتي!
بدأت علاقتي بالسيجار في نهاية السبعينات، واستمرت حتى اليوم وأصبحت تعلقا أكثر منه إدماناً أو ولهاً، فالوله يؤدي أحيانا الى الابتذال، خاصة إن لم نستطع التحكم في ما نريد ونرغب، ويتحول الاستمتاع الى عشق كاذب وإدمان صادق، وبالتالي تفقد العادة، وإن كانت سيئة، رونقها، وتطلب الأمر هنا وضع طقوس بسيطة للتدخين، ولا تدخين إن لم تتوافر، وأهمها ألا يكون هناك من يتأذى أو حتى ينزعج من رائحة دخان السيجار، وألا يكون التدخين يوميا، ولا تلقائيا، ويكون دائما في الوقت والمكان المناسبين، مع ضرورة توافر الصحبة الطيبة، والمستلزمات الأخرى التي لا دخان وسيجار بغيرها. وحيث انني سبق أن دخنت سيجارا عاديا في الليلة السابقة لعرض السيجار الفاخر علي فقد كان لزاما علي رفض العرض، والأمر ذاته لا يقتصر على التدخين بل ينسحب على بقية أنواع «العشق» الأخرى التي يجب أن نحفظها من الابتذال في الاستخدام أو الاستهلاك! وقد ذكرني سيجار فؤاد بأول تجاربي مع السيجار الكويتي، الذي كنا نصنعه بأيدينا الطاهرة، وكان ذلك قبل أكثر من نصف قرن، عندما كنا في سن المراهقة، وربما لا نزال، فقد كنا نجمع أعقاب السجائر، أو سبارس، بالمصري، من على جنبات الأرصفة، وكانت جميعها في تلك الأيام من دون فلتر، ونقوم بتشريحها بعناية و«استخراج» التبغ منها وتجميعها في لفائف مصنوعة من مخلفات اكياس الإسمنت ولفها على شكل سيجار ضخم وغير فخم، ثم حفظها للمناسبات السعيدة، التي كانت غالبا ما تقع في اليوم نفسه عندما نذهب ليلا لسطح مبنى سينما الحمرا، الذي كان وقتها قيد الإنشاء، بعد مغافلة الحراس، وهناك نضع شرشفا على السطح الإسمنتي الملتهب من اثر شمس الظهيرة، ونخرج عدة الشغل من إبريق شاي ولفائف خبز مدهونة بالزبدة والسكر، وطبعا السيجار الكويتي غير الفاخر، والاستمتاع، من على ذلك الارتفاع، الذي كان يبدو يومها شاهقا، بمشاهدة عرض مجاني للفيلم الذي يعرض في سينما الفردوس الصيفية الملاصقة، والتي كانت بلا سقف وقتها، وغالبا ما يكون الفيلم هنديا، والاكتفاء بالاستماع لأغاني الفيلم لصعوبة قراءة الترجمة من تلك المسافة البعيدة! واثناء ذلك نتبادل انخاب الشاي وأخذ أنفاس عميقة من السيجار الكويتي، المخلوط ببودرة اسمنت بورتلند الأصلي، والعودة بعد انتهاء الفيلم للبيت ونحن في تمام الانتشاء بنكهة نيكوتين ناتج عن خليط من عشرات انواع السجائر المصنوعة من التبغ التركي والفرجيني والإنكليزي والعراقي، مضاف لها كم محترم من الزفت والقطران، ومن ثم قضاء بقية الليل في سعال مستمر.
أحمد الصراف