غير مقبول التغني بقداسة القضاء أو الغرق في بحر المبالغات بنزاهة أحكامه، كما ذهب الكثيرون في التباهي المفرط بتلك النزاهة، لا خلاف في ذلك مع الزميلة إيمان البداح في مقالها المهم بجريدة الجريدة عدد أمس الأول، فلا جدال أنه ليس لدينا حتى الآن قانون متكامل يؤكد استقلال السلطة القضائية، والقضاة أيضاً يكونون، في أحيان كثيرة، بوضع لا يحسدون عليه حين يجدون النص الذي يطبق على النزاع يتناقض مع روح الدستور، وأبسط مبادئ العدل… لكن القاضي لا يملك إلا أن يحكم بهذا النص الظالم، وكما تظهر الأوراق التي أمامه، لأن تلك مهمته وهذا واجبه وليس له خيار في ذلك. وإن كان هناك نص جائر، يغل يد القاضي ولا يعطيه خياراً مثلما فعل نواب الهم والغم في تحديد عقوبة الجريمة المزعومة بالإساءة للذات الإلهية والرسول (أعيد للنظر فيه بحكمة سمو الأمير) فماذا يمكن للقاضي أن يفعل في ما لو قدر لمشروع ذلك النص أن يمضي ويصدق عليه؟!
نتفق مع الرأي القائل برفض عبارة “قدسية القضاء” أو إسباغ نزاهة ملائكية على الأحكام مهما كانت تلك الأحكام “عنواناً للحقيقة”، وهي حقيقة مفترضة أملتها الحضارة الإنسانية لاستقرار حكم القانون والمراكز القانونية للبشر، ونتفهم -من غير أن نرضى- غضب الكثيرين على حكم البراءة في قضية الاتهام بضرب النائب الوسمي من رجال الأمن في ديوان الحربش، لكن هل يعد كل ذلك مبرراً ليس لنقد فقط وإنما للتشكيك في السلطة القضائية كلها؟! فما صرح وتوعد به عدد من النواب لم يكن مجرد رد فعل على حكم ابتدائي يمكن للادعاء العام أن يطعن فيه، وهو سيكون مؤكداً، بل كان اعتداء فجاً على مبدأ الفصل بين السلطات الذي تتصدر عباراته المادة ٥٠ من الدستور!
السلطة القضائية هي أضعف السلطات الثلاث، كما كتب أحد أهم رموز الثورة الأميركية “هاملتون” في الأوراق الفدرالية، فهذه لا تملك السيف ولا كيس الدراهم، فالقاضي ليس له غير أن يحكم في نزاع معروض أمامه، هو لا يملك أن يشرع، ولا أن يراقب التشريع من تلقاء نفسه، وبقدر ما تكون هناك استقلالية لتلك السلطة تصاحبها ثقافة عالية وحس مرهف للعدالة يكون هناك الضمان لحقوق الأفراد وحرياتهم وحمايتهم من جور أي من السلطتين التشريعية أو التنفيذية.
كان أولى على نواب الأمة بدلاً من أن يطلقوا تصريحات تكرر بشكل فج الحديث عن نزاهة القضاء حين تصدر الأحكام بما يتفق مع توجهاتهم مرة، ومرة أخرى يتم التوعد لهذا القضاء حين تصدر الأحكام على غير شهواتهم، أن يعملوا لتحقيق مبدأ استقلالية السلطة القضائية بصورة متكاملة، وكان أولى على وزير العدل الأستاذ جمال الشهاب، المحسوب على أهل القانون، أن يقف بقوة وصراحة دون مواربة للدفاع عن الجسد القضائي، لا أن يصرح بمثل ذلك التصريح المداهن الخائب بأن أخطاء البعض لن تؤثر في القضاء ووعي الشعب هو الرادع! أي أخطاء وأي وعي يتحدث عنهما جمال، وهو يتلمس مرضاة وشفقة النواب الرافضين للحكم. ليس من حق الوزير (المشرف الإداري على شؤون العدل) أن يتحدث عن الخطأ في الأحكام، فمن يقرر خطأ الحكم أو صوابه هو المحكمة الأعلى، وليس وعي الشعب من يردع القضاة فهم معينون وليسوا منتخبين، بل هو ضمير القاضي وحريته في ممارسة قناعاته القانونية من يردع القاضي ذاته، وهناك المحكمة العليا لتصحيح الأخطاء إن وجدت، وليس وزير العدل محكمة أعلى درجة. كان تصريح الوزير كبوة وغلطة كبيرة لا تختلف عن كبوات وأخطاء وزراء بوزارات سابقة، نهشت من الدستور ومن دولة حكم القانون ومن حرياتنا العامة والخاصة، أراد هؤلاء الاعتذاريون أن يرضوا الجميع فلم يرضوا أحداً، وخسروا وخسرت الدولة معهم.
ملاحظة: وزير العدل في تصريحه الأخير الذي “أزال سوء الفهم” للتصريح الذي سبقه قال لنا: كأننا والماء من حولنا قوم جلوس حوله الماء … خوش حجي وأقبض من دبش!