ذات يوم، أرسل إلي زميل خليجي، وهو مواجه شرس للطائفيين وأفكارهم ومن الداعمين لمنهج تقوية العلاقات بين السنة والشيعة… أرسل إلي من باب المزاح والمناكفة اللطيفة، مقطع فيديو لأحد المشايخ وكتب في رسالته: «في هذا المقطع يا صاحبي، ستشعر بالسرور والراحة النفسية لوجود علماء ومشايخ في كلامهم روعة… في دعائهم صدق وإخلاص… نحن نحتاج إلى علماء ومشايخ ودعاة ومثقفين يعرفون جيداً المعنى الإنساني للأخوة بين الناس، وقبل ذلك يعرفون معنى الأخوة بين المسلمين في المنهج القرآني… أما هؤلاء فيحتاج إليهم إبليس»!
وعلى أي حال، شدتني الرسالة القصيرة المدهشة لمشاهدة مقطع الفيديو ولأستمع إلى دعاء على لسان أحد المشايخ يقول فيه: «اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك. اللهم عليك بـ (…) (قالها ثلاثاً). اللهم جمد الدماء في عروقهم. اللهم جمد الدماء في عروق مرجعياتهم وأئمتهم وعلمائهم. اللهم سلط عليهم الغلاء والبلاء والوباء. اللهم جمد الدماء في بطونهم وظهورهم. اللهم سلط عليهم السرطان (قالها مرتين)… ثم ذهب في بكاء مرير!
لا بأس… هناك سواد عظيم من أبناء المجتمع المسلمين يؤمنون تماماً بشعار: «إخوان سنة وشيعة… هذا الوطن ما نبيعه»، وفي المقابل، هناك من وضع ذلك الشعار موضعاً لرفع الحراب واصطكاك الأسنة محاولاً إسقاطه بما أوتي من أفكار شيطانية معادية للأخوة، وليس هؤلاء من طائفة واحدة، بل هم من ذوي النزعات والأفكار الطائفية المتشددة من الطائفتين!
في المجتمع البحريني، يرفع الصوت المخلص، من السنة والشيعة، هذا الشعار باعتباره ركن أساس (للأسرة البحرينية ولاستقرار المجتمع)، فيما يحاول الصوت الطائفي إسقاطه كونه (غير ممكن) انطلاقاً من تهم كخيانة الوطن وتحريف القرآن الكريم والخيانة التاريخية… فبالتالي لا يمكن أن يكونوا إخواناً لنا، حتى أن أحد مشايخ الفتنة وصل به الأمر إلى التشكيك في نسب طائفة بكاملها، ولم تحرك الدولة ساكناً لا ضده ولا ضد آخر رفع اثنان من المحامين دعوى إثارة الفتنة الطائفية لدى النيابة العامة ضده! بل تجاوز الأول بغضبه ليدعو الناس: لا تزوروا مرضاهم ولا تهنئوهم في أعراسهم أو مناسباتهم!
على أي حال، لو عدنا إلى أساس شعار «إخوان سنة وشيعة… هذا الوطن ما نبيعه»، لوجدنا مصدره العراق. فالشعب العراقي هو من صاغ ذلك الشعار في أحلك المراحل العصيبة التي مر بها، ولولا صدقهم في تبني ذلك الشعار بقناعة دينية وانسانية ومجتمعية، لانتشرت عصابات الإجرام المسلح بشكل مذهل، ولما ولدت جماعات الصحوة التي أرهقت تلك العصابات وإن عادت من جديد خلال الأيام الماضية لتسفك الدماء بجاهليةٍ همجيةٍ وحشية مدعومة بالتمويل والتسليح من أطراف معروفة، إلا أن الشعار وحد الشعب العراقي.
قبل عدة أشهر، استضافت العاصمة القطرية (الدوحة) ندوة: «دور التنوع المذهبي في مستقبل منطقة الخليج العربي»، ولعل الخلاصة الرئيسية من تلك الندوة هي اتفاق علماء ومثقفين ودعاة من الطائفتين على أن تعزيز مفهوم المواطنة (على حساب الانتماء للطائفة) يمكن أن يمثل حلاًّ للمستقبل، بيد أن أعداء شعار: «اخوان سنة وشيعة»، طرحوا أيضاً ما لديهم من أفكار شيطانية، وانبرى ناشط سياسي خليجي مشهور بطائفيته ليقول: «كلما أصبح الشيعة أغلبية ساموا السنة الويل والعذاب»، وهذه القراءات غير الموفقة كان لها من ينفيها ويسفهها ويسقطها بقوة على هامش الندوة، لكن الحق، أن المشاركين الذين حملوا أنظمة الحكم الخليجية مسئولية تأجيج الصراع الطائفي كانوا مصيبين فيما قالوا، فلا يمكن أن تنتعش الطائفية إلا إذا كانت مدعومةً من الحكومات، ولهذا فإن المطلوب من الحكومات الخليجية، وفق الأصوات المعتدلة في الندوة، هو الوقوف على مسافة واحدة من كل المذاهب.
المجتمعات الخليجية، بل قل المجتمعات العربية كلها تعيش التنوع الديني والمذهبي والقومي، لكن غياب نظام المواطنة بوصفه نظاماً متجاوزاً للتعبيرات التقليدية، جعل بعض هذه المكونات تعيش التوتر في علاقتها، وبرزت في الأفق توترات طائفية ومذهبية وقومية، وهكذا عاشت بعض الدول والمجتمعات العربية توترات مذهبية خطيرة تهدد استقرارها السياسي والاجتماعي.
أين موضع الخلل؟ هنا نتفق مع الآراء التي تركز على أنه حين تتراجع قيم المواطنة في العلاقات بين مكونات المجتمعات العربية، تزداد فرص التوترات الداخلية في هذه المجتمعات؛ لهذا فإن العالم العربي يعيش مآزقَ خطيرة على أكثر من صعيد، وهي بالدرجة الأولى تعود إلى خياراته السياسية والثقافية. فحينما يغيب المشروع الوطني والعربي، الذي يستهدف استيعاب أطياف المجتمع، وإخراجه من دائرة حبسه في الأطر والتعبيرات التقليدية إلى رحاب المواطنة؛ فإن هذا الغياب سيدخل المجتمعات العربية في تناقضات أفقية وعمودية، تهدد استقرارها السياسي والاجتماعي.
ليس هناك من حل أقوى من أن تكون الأنظمة الحاكمة هي (حائط الصد) الأقوى للطائفيين وأفكارهم، لا أن ترعاهم وتحميهم، فالمجتمعات والشعوب الخليجية والعربية تتطلع إلى حكومات وأنظمة سياسية متطورة ومدنية، تفسح المجال للكفاءات الوطنية المختلفة للمشاركة في تنمية الأوطان العربية وتطويرها على مختلف الصعد والمستويات.