«لله الحمد، لم نصل إلى مرحلة الاقتتال الطائفي»… هذه العبارة وردت – كما قرأها الكثيرون – في تصريح نشر قبل فترة وجيزة مضت لرئيس تجمع الوحدة الوطنية الشيخ عبداللطيف المحمود، وسبقت هذه العبارة كلمتان: «الشارع منقسم»! إلا أن فيما سبق هذه العبارة في التصريح وفق ترتيبه المنشور، أجزم الشيخ المحمود بأن: «الآن، انتهت الثقة بين الطائفتين السنية والشيعية»! ولربما كان مستساغاً أن يقول الشيخ، كرجل دين نافذ و(رجل سياسة) ما يشاء تجاه جمعية الوفاق الوطني الإسلامية من باب (العمل السياسي) وموقفه الذي يمثل موقف تجمع الوحدة من أنه: «لا مجال للحوار بين التجمع والوفاق، فإنهم لا يعترفون بالآخر كقوة سياسية»… له ذلك، لكن، هي سقطة كبيرة أن ينهي الشيخ المحمود العلاقة بين السنة والشيعة في البلد باعتبار أن الثقة (انتهت)! وودت شخصياً لو فصل الشيخ بين موقف التجمع من المعارضة والوفاق تحديداً، وبين مسألة العلاقة بين السنة والشيعة.
هل تريدون أن تشاهدوا المنظر الأكثر إنسانية ودلالة على أنه لا مجال إطلاقاً لدق إسفين بين الشيعة والسنة في البلد؟ سأترك المشهد إلى آخر فقرة في هذا المقال، لكن إذا أردنا أن نرى (لهيب) الصراع الطائفي ونيرانه المشتعلة وأحقاده المتلاطمة، فإنه ليس من الصعب أن نستشعر تلك النيران في مضامين مقالات بعض الكتاب وتغريدات بعض المغردين وقنابل بعض القنوات الفضائية ذات الصفة الطائفية أياً كان انتماؤها وخطها الخبيث، بالإضافة إلى (فلول) من الطائفيين الذين يبثون سمومهم في منتديات إلكترونية… السوق الأكثر رواجاً لتلك البضائع الطائفية البغيضة، هي بين الطائفيين أنفسهم! ممن يعرفون أنفسهم ويمارسون سلوكهم الطائفي، لكنهم لا يمثلون كل السنة وكل الشيعة وكل الشرفاء في المجتمع البحريني الذين لا يمكن أن تسري إلى عقولهم ونفوسهم تلك السموم.
تصريح الشيخ المحمود المثير للجدل فعلاً، والذي استنكره الكثيرون – وأنا منهم – واعتبره البعض الآخر أنه (مفبرك)، واعتبره طرف آخر أنه يخفي وراءه أمراً مقصوداً… إلا أن ما أكده هو أن الشيخ لم يصدر أي تصريح أو بيان ينفيه! ما يدل على أنه قاله بالصيغة التي وردت، ولأنني من المواطنين الذين تمنوا أن يكون للشيخ عزل واضح بين الخلاف والصراع السياسي بين تجمعه وبين أي تيار سياسي آخر، فالسياسة لها قذارها، وبين علاقات الطائفتين الكريمتين في المجتمع، والتي هي أولاً وأخيراً، مسئولية دينية ووطنية واجتماعية وأخلاقية وإنسانية ومبدأية أيضاً للمواطن عينه وليست شأن محرك سياسي يبدأها وينهيها كما يشاء ذلك المحرك.
إذاً، وفقاً للشيخ المحمود فإن (الثقة) بين السنة والشيعة انتهت؟ ولربما (فلسف) البعض الفكرة بالإيماء إلى أن (العلاقة) شيء (والثقة) شيء آخر! وهذا صحيح… بمعنى أنه قد تكون هناك (علاقة) بين طرفين، لكن ليس بالضرورة أن تكون هناك (ثقة) في العلاقة بين ذينك الطرفين، بيد أن الأخطر في ذلك (التفلسف) هو تشجيع نشر فكرة تنافي الدين والعرف والأخلاق بين مكونات المجتمع تقوم على أساس استمرارية العلاقات لكن… بلا ثقة!
لا بأس لكن… هل ذلك (التفلسف) المجوف والكريه في مضامينه هو ما يقبله كل مخلص من أبناء الطائفتين الكريمتين؟ الشيخ المحمود قال كلامه، ولهذا وجدت في طرف آخر كلاماً أكثر عقلانيةً وأصفى نيةً في منع تغلغل ذلك (التفلسف) الفاشل… ذلك الطرف يشمل الكثير من ذوي النوايا الصادقة الذين يبذلون جهداً كحائط صد لوأد مثل تلك الأفكار المتفلسفة بشَرَهٍ طائفي (أغبر)… ومن بين تلك الأطراف التي ولدت حديثاً، مبادرة (وطن يجمعنا)… ففي أول لقاء للمبادرة بمأتم أنصار الحسين بقرية البلاد القديم قدمت نائب رئيس جمعية الاجتماعيين البحرينية الناشطة والباحثة هدى المحمود صيغة بحرينية أصيلة حيث دعت (لصدّ محاولات من يحاول إشعال الخلاف الطائفي بين أبناء الطائفتين الكريمتين، والدعوة إلى إعادة اللقاء في كل مآتم ومساجد البحرين… من البحر إلى البحر، وأن هدف منظمات المجتمع المدني من هذه المبادرة هو رعاية النسيج الاجتماعي، وذلك بعد ملاحظة أن الخلاف السياسي بدأ يضرب في النسيج الاجتماعي، في حين أن هذا النسيج يجب ألا يتأثر بالاختلاف الوارد والأصل).
جميل جداً، لنعرج إلى فقرة أخرى من كلام الناشطة هدى المحمود: «الاختلاف وارد وهو الأصل، ولو كان هناك اتفاق فقط لتأثرت الحياة… الاختلاف يحدث لننتج ونبدع ونتناغم فكل المجتمعات تطورت بسبب الاختلاف، ولهذا فإن من ضمن أهدافنا ومشاريعنا هو ليس (التقارب) فطول عمرنا متقاربين، ولكن الالتقاء من أجل الثقة بالآخر، وقد أبلغت أعضاء المبادرة بأننا كبحرينيين، نعيد حالياً اكتشاف أنفسنا كبحرينيين… أعتقد أن البحرين بدون البحرينيين لا تستقيم كوطن، ولا البحرينيين بدون البحرين… ما يجري الآن طارئ وسيخف ثم سيزول، ونحن في المبادرة، وضعنا مجموعة من الآليات وأنتم بمبادرتكم العفوية الطيبة تناولتم ما فكرنا فيها نحن ونفذتموه ودعوتمونا له، وأتصور أن هذه هي البحرين الحقيقية وهذا هو الشعب البحريني الذي يجعلنا في أحلك الأزمات والأوضاع لا نفقد الأمل لا في البحرين ولا في البحرينيين».
الأجمل في الطرح الحقيقي المخلص في كل أبعاده، والذي يكشف (هوس التفلسف المنافي له)، هو قولها: «أريد أن أقول إنني مؤمنة بالبحرينيين، ومؤمنة حتى النخاع بوطنيتهم وبحبهم لوطنهم، ومؤمنة بإبداعهم وتفكيرهم الخلاق، ونحن كبحرينيين في الخليج، يقولون عنا إننا النموذج للتقدم والتطور، وهذا الأمر له ضريبة ندفعها، لكن لا يجب أن دفعها من تطورنا ولا من انتمائنا ولا في أن نترك الاختلاف يؤثر على نسيجنا… نريد أن نعيد هذ اللقاء في كل مآتم ومساجد البحرين… من البحر إلى البحر… فالبحرين عزيزة علينا وكلنا أهل… لقد جددتم الأمل».
بعد هذه الفقرة، من وجهة نظري الشخصية، تسقط كل شنشنات الإنهاء القسري للثقة بين أبناء الطائفتين، وكأنها ثقة (روبوتات آلية) وليست ثقة (بشر محكومين بمبادئ دينية ووطنية قويمة)… الآن، لاشك في أن القارئ الكريم ينتظر أن أقدم له المنظر الأكثر إنسانية ودلالة على أنه لا مجال إطلاقاً لدق إسفين بين الشيعة والسنة في البلد… حسناً، يوم الأربعاء الماضي (29 مايو/ آيار 2012)، وفي غرفة الانتظار القريبة من قسم الإنعاش بطوارئ مجمع السلمانية الطبي، كان هناك ذوو مواطنين من الطائفتين… رجالاً ونساءً وشباباً من الجنسين، وعلى فراش الخطر ينام أحبتهم… السني يعانق الشيعي ويطمئنه، والشيعية تبادر السنية وتقرأ معها الآيات القرآنية والأدعية… والشاب الشيعي يقف مع نظيره السني يتابعان أخبار الأحبة من داخل غرف الإنعاش.. وأشد حالات الثقة (التي لم تنتهِ)، هي تلك التي يتبادلون فيها الدموع الصادقة والمشاعر النقية كلما وردهم خبر مقلق… يا جماعة، إذا المسألة مسألة نهاية الثقة بين الطائفيين من الفريقين (قلعتهم)! أما إذا كان الأمر يضرب في ضمير المخلصين من الطائفتين… (مشوا بوزكم).