الإخوان، الإخوان، الإخوان… الإخوان المسلمون من النوع الذي إذا تناول طبقاً من الأكل مسحه عن بكرة أبيه وأمه وبنيه، ولم يبقِ فيه شيئاً للأيتام وعابري السبيل. هم هكذا، وطريقتهم هكذا. سيطروا على تونس، واستحوذوا على ليبيا، و”كوّشوا” على مصر (جماعة الإخوان في مصر هي الجماعة القابضة، على وزن الشركات والمجموعة القابضة، فكل الأنهار تصب في بحرها)، ومن حقهم السيطرة والاستحواذ والتكويش، لكن خداع الناس ليس من حقهم.
وكنا في الكويت، وقد ذكرتُ هذا مراراً ومرارة، ننام ومَحافظ نقودنا تحت وسائدنا، خشية مرور أحد من الإخوان المسلمين، ونوصي أطفالنا: “إذا أعطاكم الإخوان (مصاصة) فلا تأخذوها، احذروا”، وكان الإخوان “خير مَن وطي الحصى” في استعمال أدوات الغمز والهمز واللمز، وهي أدوات صغيرة الحجم يمكن إخفاؤها في الجيب الداخلي للجاكيت. وكان الشعب يعاني الأمرّين والعلقمين فيرتفع صوته بالبكاء على أمواله التي طيّرتها عاصفة الفساد، وكان الإخوان بعد أن يتناولوا الكافيار في منتجعاتهم، ويخضبوا لحاهم بآخر تفتيحات العطورات الشرقية، يرفعون أصواتهم بالبكاء أيضاً، فيعلو بكاؤهم على بكائنا، فتمسح الحكومة دموعهم بأوراق البنكنوت! وكانوا وكنا، وكانوا وكنا، وكانوا وكنا…
ودارت الأيام، وجاء جمعان الحربش، العضو البارز في الإخوان وفي البرلمان، مدعوماً من بعض شبان الإخوان، فقلبوا المعادلة، فتغيرت نظرة الناس في الكويت للإخوان، وصار الإخوان إخواننا، وحل الليبراليون محلهم في التكتكة مع الحكومة، وفي الغمز واللمز والهمز، الفارق الوحيد هو في نوع العطورات المستخدمة، فـ”الإخوان الليبرال” يستخدمون العطورات الفرنسية لا الشرقية، ويقولون للحكومة بعد كل صفقة “ميرسي” بدلاً من “جزاكِ الله خيراً”.
وبالعودة إلى مصر وإخوانها الذين ما زالوا يرتدون القمصان ذات الجيوب المخفية، تعهد الإخوان هناك بعدم السيطرة على البرلمان، فنكصوا ونكثوا، وسيطروا على البرلمان، وتعهدوا بعدم خوض انتخابات الرئاسة، فنكصوا ونكثوا، وتعهدوا بعدم فرض رأيهم على التعديلات الدستورية، وهاهم في طور النكوص، وتعهدوا ونكصوا، وتعهدوا ونكصوا، وتعهدوا ونكصوا… وما زال المصريون ينامون ومحافظ نقودهم تحت وسائدهم، ويحذرون أطفالهم من “مصاصات” الإخوان، لذا ليس أمام إخوان مصر إلا أن “يتحربشوا”، كي يكسبوا ثقة الناس، ولو كنت أنا من إخوان مصر، ولو كنتُ عضواً في قيادة الجماعة، لاستعنت بالدكتور جمعان الحربش، كمستشار أجنبي، ولنفذت كل تعليماته، ولوقّعت على تعهد أمام الجماعة أضمن لهم فيه أنه خلال سنة واحدة، لا أكثر، سيوصي الآباء أطفالهم: “لا تأخذوا المصاصات إلا من الإخوان”.
فيا أيها الإخوان المسلمون المصريون، تحربشوا، واستفيدوا من تجربة فرعكم في الكويت، وأوصوا جميع أفرع جماعتكم في طول الوطن العربي وعرضه بالحربشة، مع التأكيد لهم على أن الشرط الأول للحربشة هو التخلص من “الآلة الحاسبة”، والشرط الثاني هو اليقين بأن “العيال كبرت” وأن الناس أصبحت تفهم ولا يمكن خداعها بسهولة.
اليوم: 31 مايو، 2012
حلبجة سورية
لم يعد من المقبول أن نردد مقولة: إن بقاء نظام الأسد هو “أهون الشرين”، فالمجزرة الأخيرة في “الحولة” تقطع بأن نظامه هو أسوأ الشرين، وليس هناك فرق بين ما حدث في “الحولة” وبين السابقة التاريخية في حلبجة العراق، فالجريمتان يمكن اعتبارهما من جرائم “جنو سايد”، أي القتل الجماعي الذي لا يفرق بين المدنيين والعسكريين والأطفال والنساء.
الصور التي نشرتها وسائل الإعلام تخبرنا بحجم وحشية النظام، هذا النظام الذي يدفع التهمة عن نفسه باتهام المقاومة الشعبية، فأين تكون مصلحة الجيش السوري الحر في مثل هذه الجريمة؟ بل لو كانت أصابع الاتهام تؤشر إلى مجرمي القاعدة فهنا أيضاً ليس لهؤلاء المهووسين دينياً أي مبرر أو دافع “للحلبجة” الأسدية.
الخوف المشروع أو غير المشروع من أن غياب نظام الأسد سيفتح الباب للحرب الأهلية بشكل عام، وستكون الأقليات الدينية هي أكبر ضحايا مثل تلك الحرب لم يعد مقبولاً لاستمرار المجازر، فسورية تحيا حرباً أهلية حقيقية، وإن كانت في بداياتها، وإن كانت بين طرفين غير متكافئين، فالنظام يملك الدبابات والطائرات، والطرف الآخر ليس لديه سوى الأسلحة الخفيفة، لكن لو انقلبت الأمور، وهذا لن يكون إلا بتدخل خارجي من حلف الناتو، فإنه يمكن تصور أن مقدار العنف الذي مارسه نظام الأسد سيكون له رد فعل بحجمه ومقداره من أهالي وأقارب ضحايا الأمس، وسيدفع الثمن في النهاية طوائف العلويين والمسيحيين وبقية “الموزاييك” السوري، والكثير منهم أبرياء من جرائم نظام يجعلهم حجة للاستمرار كما يشاء في الحكم.
هل يعد هذا عذراً لبقاء النظام الستاليني الأسدي إلى ما شاء الله! طبعاً لا، ولا كبيرة، فكلما امتد عمر النظام في الحكم سنشهد المزيد من “الحلبجات” السورية، لكن في الحلبجة السورية الضحايا لا ينتمون إلى أقلية كردية كما كان عراق صدام، وإنما للأكثرية السنية، ولنا أن نتصور في الغد حجم الشرور التي ستخرج من صندوق “بندورا” السوري.
تسليح المقاومة السورية ليس الحل، فهذه المقاومة غير متفقة بين العسكر (الجيش السوري الحر) وبين المثقفين المنفيين برئاسة المفكر برهان غليون، ولا يبدو أن للاثنين تصوراً مشتركاً للمستقبل السوري غير إزالة النظام، لكن بعد ذلك، ماذا سيكون الحل، ومن البديل؟ فسورية ليست تونس كمثال يحتذى به، وليست مصر وليست اليمن ولا ليبيا، هي قلب الوطن العربي بكل تناقضاته وطوائفه التاريخية، ولا يمكن أن نتخيل سورية وقد أصبحت صومالاً أو يمناً جديدين، فأي إصابة في هذا القلب ستمتد بلا شك إلى بقية الجسد العربي… الضغط على النظام من المجتمع الدولي يجب أن يتزايد، والمساعدات الإنسانية للضحايا يجب أن تتضاعف، ونستغرب هنا طول الحديث الرسمي والشعبي عن المساعدة للشعب السوري، بينما أبواب الفيزا مغلقة في وجوههم، لاعتبارات أمنية كما يبدو، لكن هذا لا يمنع من الاستثناء لاعتبارات إنسانية. يبقى الأمل أن تتوحد وجهات النظر في حل معقول للمستقبل السوري بعد تنحية النظام “الجملكي” (تعبير سعد الدين إبراهيم عن الجمهوريات التوريثية) ويمكن تصور أي نظام بديل بشرط ألا يحيل سورية إلى دولة دينية أو طائفية، وهذا صعب والطريق إليه طويل في منطقة تضج بتاريخ ممتد بالطوائف والإثنيات العرقية المتناحرة، لكن هذا هو حال “الأمة” العربية المتشظية إلى أمم وقبليات وطوائف ليس لها أول ولا آخر.
كرافتة القديس جون
يقول القارئ «محمد ق» إنه عمل في مطلع السبعينات في شركة نفط الكويت، وكان اتقان الانكليزية في تلك الأيام من ضروريات النجاح في العمل، وربما تغير الوضع الآن. ومن أجل ذلك قامت شركة النفط بتشجيع الموظفين على الالتحاق بمركز التدريب اللغوي في مدينة الأحمدي. ويقول إن أول مدرس لغة تصادف وجوده هناك كان، لحسن الحظ، انكليزيا، واسمه السيد جون، ولكنه كان قليل النشاط بسبب تقدمه في السن. وكان معروفا عنه اصراره على ارتداء ربطة العنق نفسها يوما بعد يوم، بصرف النظر عن لون البدلة أو القميص، وكانت الكرافتة، بسبب طول الاستعمال، شاحبة اللون ويبدو عليها القدم، كما كان منظره أحيانا وهو يرتديها مثار سخرية وانتقاد دائمين من جميع الطلبة. ويقول محمد انه كان يشعر بأنه كان يعلم بتعليقاتهم وسخريتهم، ولكنه كأي انكليزي، كان مهذبا وبارد الأعصاب، حتى وهو بربطة عنقه المهترئة تلك، وبالتالي لم يكن يكترث كثيرا لما كنا نقوله عنه. وفي أحد الأيام أخبرهم رئيس مركز التدريب أن عيد ميلاد المستر جون يصادف اليوم التالي، وأن عليهم ترتيب مفاجأة لطيفة له. وهكذا تم الاتفاق على مشاركة جميع طلبته في شراء هدية للمدرس الأرمل بتلك المناسبة، مع تحضير وجبة طعام خاصه به. وهكذا تم الاتفاق على شراء عدد من ربطات العنق الأنيقة له بألوان مختلفة، ومفاجأته بها! وفي فترة الغداء، قاموا بالطلب من المستر جون مشاركتهم الطعام في الكانتين، وهناك فاجأوا الرجل بغناء جماعي لأغنية عيد الميلاد المعتادة، وقدموا له الهدية بعدها، فشكرهم بتأثر واضح، ووضع الهدية جانبا من دون أن يفكر في فتحها. وفي صباح اليوم التالي حضر المستر جون الى الفصل، وابتسامة جميلة تملأ وجهه، ولكن من دون ان يكترث لوضع واحدة من ربطات العنق التي اهديت له، ولم يحاول أن «يجبر خاطر»، بل جاء مرتديا ربطته القديمة، وعندما لاحظ علامات التساؤل بادية على وجوه الجميع، قال إنه يقدر مشاعرنا ويشكرنا كثيرا على الهدية، وأنه سوف يحتفظ بتلك الربطات ما دام حيا، ولكن طلب اعفاءه من ارتداء اي منها، فربطته القديمة عزيزة عليه ولن يستبدلها بأخرى، فقد كانت آخر هدية حصل عليها من زوجته قبل أن تتوفى نتيجة مرض عضال، ووفاء منه لذكراها قرر الاحتفاظ بربطة العنق تلك وارتداءها ما بقي على قيد الحياة.
ويقول محمد إننا شعرنا جميعا يومها بالخجل من سابق أحكامنا على الرجل، وما أطلقناه عليه من أوصاف تتعلق بقلة الذوق والبخل، وأصبحنا منذ تلك اللحظة نطلق عليه اسم «القديس جون»!
أحمد الصراف