وصف د. سعد الدين إبراهيم، وهو في أوج حماسه، الحالة الديمقراطية التي تخطو نحوها مصر بأنها مثل البوفيه يختار المواطن منها ما يشتهي. تشبيه د. سعد الدين الذي جاء في مجلة “المصري” جميل ومثالي، ويمكن تفهم حماسه للحالة المصرية اليوم بعد أن ذاق هذا الأكاديمي الكبير مرارة السجن أيام حسني مبارك، لا لشيء غير أنه مارس حقه في نقد النظام. الآن يجب ألا ننسى، سواء في مصر أو في الكويت وفي كل المشاريع المستقبلية لدول “الربيع العربي”، تجارب الغير ممن سبقونا في المضمار الديمقراطي، بأن هناك مَن سيلتهم كل أصناف الطعام من سطح البوفيه الديمقراطي، حين يتمكن من الاستحواذ على أغلبية الأصوات ولا يترك للآخرين غير سموم الطغيان، وفي مثل دولنا التي ليس لها تاريخ يستحق ذكره في الديمقراطية علينا أن ننتبه إلى أن قوى الأصولية، أياً كانت، دينية أو غير دينية، ستنحي جانباً الآخرين تحت حجة الأغلبية الشعبوية، كي نشهد حالة ما يسمى “الاستبداد الديمقراطي”.
أوروبا العريقة في التاريخ الديمقراطي تجرعت هذا السم في التجربتين النازية والفاشية، وكان هَمّ المفكرين والفقهاء القانونيين، بعد اندحار دول “المحور” أن يخلقوا آليات قانونية لدرء أي مخاطر متصورة مما سماه الفقيه لونستين “الديمقراطية الأصولية”، وله عبارته المشهورة “يجب محاربة النار بالنار”، وكانت دعوته إلى الديمقراطية المنضبطة disciplined democracy، والطريق إلى هذه الديمقراطية المنضبطة ليس كما يتوهم البعض بفتح أبواب احتكار الحكم للسلطة التنفيذية، بل يكون من خلال “التقنيات الدستورية”، وهذا لا يكون إلا عبر خلق المحاكم الدستورية عند الفقيه الكبير هانز كلسن صاحب النظرية البحتة للقانون، فمثل تلك المحاكم يمكن أن تفرمل اندفاع “السيادة الشعبوية” popular sovereignty كي لا تسحق حقوق وحريات الأفراد أو الأقليات “بصفة عامة”، وكان بعد ذلك أن انتشرت وتوطدت أركان المحاكم الدستورية في أوروبا الغربية، فهنا سلطة حكم القانون والشرعية الدستورية تقف حائلاً دون تمدد التيارات الشعبوية.
لنقف عند هذا الحد، حيث فصّل كثيراً في هذه المسألة الباحث جان ميلر في كتابه “contesting Democracy” (الديمقراطية المتحدية كما أترجمها)، ويبقى أن ننظر هنا في الكويت ونقرأ تجربة المحاكم الدستورية في أوروبا مع الأخذ في الاعتبار الفارق أو “الهوة” الكبيرة بين الحالة الأوروبية بعد الحرب والحالات العربية ومنها الكويت. ويظل مشروع النائب محمد الصقر نحو تعديل نظام المحكمة الدستورية بقبول الدعوى المباشرة خطوة مستحقة إلى الأمام، من دون أن ننسى عدم كفايتها، بضرورة العمل نحو قانون كامل للاستقلال القضائي وإقرار نظام مخاصمة القضاء، مع الأخذ في الاعتبار ملاحظات الزميل محمد الجاسم التي دوَّنها في كتابه “المحكمة الدستورية… نحو إصلاح جذري”، ففي النهاية ليس هناك من ضمان لحريات الأفراد هنا في الكويت أو أي من الدول التي تحبو على أرض “الربيع ” أو “الخريف” العربي غير سلطة الشرعية الدستورية، فحين تنص الدساتير على الحد الأدنى من حريات البشر، فبالتالي ليس من سلطان المجالس النيابية أو الحكومات الافتئات عليها تحت حجة هذا القانون وهذا حكم الشعب، ومن لا يعجبه فليشرب ماء البحر… فهذا “بوفيه” لا يسمن ولا يغني من جوع.
اليوم: 24 مايو، 2012
عندما يتحالف «ماركس» مع التخلُّف!
يقول برنارد شو: «ان الديموقراطية هي آلية لضمان بأننا لن نُحكم بأقل مما نستحق!».
***
لدي ما يكفي من الشجاعة للاعتراف بأنني، وطوال 40 عاما تقريبا، كنت مخطئا في إلقاء مسؤولية تخلف أوضاعنا السياسية والاقتصادية والتعليمية وغيرها في الكويت على السلطة! اقول ذلك، بالرغم من إيماني بضرورة تحمل السلطة المهيمنة على أوضاع الدولة نصيبها من المسؤولية، ولكن الجهات الوطنية المؤتمنة على إقامة الدولة المدنية هي المقصرة الأولى عما وصلت اليه أوضاعنا من سوء، فقد أخطأت في حق نفسها ووطنها، بسبب فشلها طوال عقود ثلاثة في تشكيل اي تنظيم قوي، أو حتى القبول بتنظيم قوي! وبالتالي، لم يكن امام السلطة غير الالتفات لغيرها من القوى المضادة الأكثر تنظيما وقوة! ففي أول محاولة جدية لإقامة تنظيم موحد يضم المنبر الديموقراطي والتجمع الوطني، دفعت قيادة المنبر في اتجاه منع فكرة الانصهار في تنظيم واحد، وأعتقد أن موقفها هذا لم يتغير، وقد صدم هذا الموقف وقتها كثيرين، وعزز من موقف السلطة السلبي منهم، على الرغم من كل ما امتلكه أفراد التنظيمات الليبرالية والوطنية المشتتة من قدرات إدارية كبيرة وناجحة، مكنتها طوال نصف قرن من شغل غالبية، إن لم يكن كل وظائف الدولة، قبل أن يأتي ممثلو القوى الأخرى المناوئة لهم ويقوموا بتهميشهم بصورة تدريجية والحلول محلهم تماما، بعد أن فرضوا أنفسهم على السلطة من خلال اتحادهم وقوة صوتهم، وبالتالي ليس من العدل تكرار مقولة إن السلطة تعمل ضد الوطنيين والليبراليين. فالسلطة، أي سلطة، لا يهمها غير بقائها، وبقاؤها يكون بتعاونها أو اتحادها او تحالفها مع القوى الفاعلة الأخرى، والقوى الوطنية الليبرالية لم تكن قوة فاعلة ومتحدة، على الأقل منذ التحرير وحتى اليوم! فقد بَزَّهم الآخرون ذكاء وتكتيكا، وعرفوا اللعبة خيراً منهم، وأصبحت لهم خطوطهم الحمراء والزرقاء، التي أصبح كثيرون يهابون الاقتراب منها.
لست هنا بطبيعة الحال في معرض الدفاع عن السلطة وتبرئتها من كل سلبياتنا وأخطائنا، ولكني أشعر بأني ملزم بالاعتذار عن سابق مواقفي، وبعد أن اصبحت أرى في اكثر من تجمع وندوة عقدت أخيرا كيف «تكاتف وتحالف» ماركسيو الأمس واليوم والغد مع أكثر القوى إثارة للجدل والشبهة والشك، فقط لأن الاثنين يشتركان في عدائهما للسلطة! وأعتقد ان كثيرين يعرفون من أعني هنا!
والخلاصة أن عيبنا فينا، وتشرذمنا سببه ضعفنا، ولن نستطيع فرض أو إقناع السلطة بصواب مواقفنا وآرائنا بغير تكاتفنا، وأعتقد مخلصا أن السلطة ستكون اكثر انسجاما مع نفسها في التعاون مع القوى الوطنية المتقدمة منها مع الأخرى، ولكن هذا يتطلب الاتفاق على قيادة واحدة وموحدة تتحدث مع السلطة، وبخلاف ذلك ستستمر عملية التخلص من كوادر القوى الوطنية في الإدارة الحكومية، وإحلال غيرهم محلهم شيئا فشيئا!
أحمد الصراف