الله يرحمه ويبرّد قبره أديبنا الكبير إبراهيم عبدالقادر المازني الذي كان يكتب مقالات أطول من نهر النيل وأغنى.
كان ينشر المقالة الواحدة على صفحات وصفحات، فتقرأها وتنام وتستيقظ وتكمل قراءتها في اليوم التالي، وتتزوج وتنجب أطفالاً تسمي أحدهم “سعود” وتدخله حضانة أجنبية فيعلّم الأطفال الأجانب لحن “ناقتي يا ناقتي لا رباع ولا سديس”، ويتخرج سعود، ويتزوج، ويُتهم في قضية أمن دولة (المخالفة المرورية في الكويت في السنوات الأخيرة باتت أخطر من تهمة أمن الدولة) وتكبر أنت، وتشيخ، ومازلت تقرأ المقالة ذاتها، وتموت، وتُدفن ومعك المقالة إياها، وتُبعث من جديد قبل أن تُنهي قراءتها.
كان هذا في عشرينيات القرن الماضي (نشر المازني بعض مقالاته في كتاب أسماه حصاد الهشيم عام 1924)، وأظن أن الناس وقتذاك كانوا يحتفون بمن ينتهي من قراءة المقالة الواحدة، كما يفعلون في حفلات الطهور، فيرقص الحصان، وتزغرد النساء.
وكنت أقرأ في اليوم الواحد أكثر من ثلاثين مقالة، محلية وعربية، وأجد الوقت الكافي لقراءة الكتب.
واليوم، في زمن تويتر ذي المئة والأربعين حرفاً، تبني العناكب مدنها الجديدة على مكتبتي، وتنفذ خطتها التنموية على الجرائد القابعة امامي على المكتب، الأمر الذي جعلني ألغي المكتبة وأجمع الكتب المهمة، فقط المهمة، في شنطة سفر من الحجم الكبير، وأتبرع بالبقية لعابري السبيل، وأصرف نظري عن غالبية مقالات الزملاء، الذين كان لهم شنة ورنة، بعد أن اعتبرتهم من “العرب البائدة”.
ويكتب الكاتب منا مقالة لا تتجاوز خُمس الصفحة أو سُدسها، فنصرخ في وجهه: “من لديه الوقت لقراءة كل هذه المخطوطة الرومانية؟”، وينصحني بعض الزملاء: “تغير الوقت أبا سلمان فلا تطل المقالة”، على اعتبار أن مقالاتي تُصنّف من المقالات الطويلة، فأرد: “لا أحترم بطاطين الطائرات، التي إذا غطت رجليك كشفت رأسك، وإذا غطت رأسك كشفت رجليك، أريد أن أغطي رأس الموضوع ورجليه”، ومع ذا أجدهم محقين عندما أختلي بنفسي وثالثنا الشيطان، وأفكر جدياً في تقليص مصروفات مقالاتي، واستخدام نظام الحقن أو المقالة الكبسولة.
وأجزم أن أحداً دون الخامسة والعشرين من عمره لا يقرأ المقالات، إلا ما ندر وزنه وطال سجنه، وأن نسبة قراء المقالات تحت سن الثلاثين لا تكاد تُرى بالعين المجردة. ولا أدري، فقد يأتي يومٌ نكتب فيه مقالة لا تتجاوز الفقرة الواحدة، وقد يأتي يوم آخر نكتب سطراً ونصف السطر فقط، فيتذمر القراء: “أوف… مَن يقرأ كل هذا؟”. الأكيد أن العربان منشغلون عن القراءة في تطوير كوكب الأرض. وحّدوووه.
اليوم: 10 أبريل، 2012
بغيناكم عون…
“بغيناك عون طلعت فرعون”، هذا المثل ينطبق على جماعة الإخوان أو حدس في مواقفهم بمجلس الأمة، أو كما تتمثل تلك المواقف في تصريحات بعض الأعضاء المحسوبين على الجماعة، ففي بطولات المزايدات الدينية، وحين يرفع كل من “هب ودب” حراب الدفاع عن الإسلام “الحقيقي” كما يسوق هذا النعت مشايخه من “اكليروس” القرن الواحد والعشرين، لا نسمع أي صوت فيه “ريحة” عقل أو لمسة عقلانية من “المعتدلين الإخوان”، فهم من روج بالأمس أنهم يمثلون صوت الاعتدال والنصح الهادئ في طرحهم الدعوي، وأنهم بحكم تاريخهم السياسي الأعقل والأكثر تفهماً لظروف التغيرات الاجتماعية في كل دولة إسلامية.
إنهم دخلوا عالم السياسة من أوسع أبوابها، واحتلوا الصدارة والمراكز المتقدمة في الربيع العربي لقدراتهم الكبيرة في التنظيم مع الدعم المالي الذي سكب بغير حساب في جيوبهم من دول الخليج من أيام معارك الثروة ضد الثورة، وانتصار فريق الثروة بسلاح البترودولار وغطرسة واستبداد الأنظمة التي رفعت الشعارات الثورية واستولت على الحكم في خمسينيات القرن الماضي.
المهم أننا اليوم لم نعد نفرق الخيط الأبيض من الأسود في الطرح الديني الإرهابي القائم على نفي الآخر والطرح المعتدل الذي يفترض أن يكون دستور الإخوان.
كيف أفرق الآن بين السيد مبارك البذالي (وأتمنى على صحافتنا نشر أخباره بدون صوره) الذي يريد إقامة جولات تفتيشية في الجزر الكويتية ليحرق مكامن الفسق والفجور، وأعضاء محسوبين على حدس في اللجنة التشريعية بعد أن أوصت تلك اللجنة بعقوبة الإعدام أو المؤبد لمن يسيء للذات الإلهية أو الرسول أو زوجاته…!
ماذا تركت اللجنة التشريعية للقضاء من حرية في تقدير العقوبة المناسبة حسب ظروف كل تهمة والمتهم! وهل بذلك النهج “الدراكوني” في التشريع تنتصر اللجنة للإسلام أم تنفِّر الغير من روح الإسلام وجوهره الغائب عن تجار السياسة الدينيين، أين صوت الاعتدال والعقل من نواب حدس في الطرح الطائفي المتشنج من بعض النواب! هل هناك أي فرق بين الخطاب السياسي للنائب محمد هايف أو أسامة مناور وبين خطاب الحربش أو محمد الدلال (الاثنان من حدس) في دعوات الرقابة على الحسينيات ومساجد الشيعة؟ ولا أفهم كيف مرر رجل القانون والمحامي محمد الدلال العضو في اللجنة التشريعية مثل ذلك الاقتراح المرعب في عقوبة الإساءة للذات الإلهية والرسول؟ هل فكر أن مثل ذلك الطرح سيسيء للدين الإسلامي في المحافل الدولية بأكثر مما ينفعه؟… فهل هذا أهون الشرين وأخف الضررين…!
أسئلة كثيرة تدور في رأسي عن الحدود الفاصلة بين الدولة البذالية التي سترفع أعلامها في جزيرة كبر غداً والدولة الحدسية التي رفعت أعلامها على كل التراب الكويتي.
الصورة والأصل
صادف يوم 14مارس الماضي ذكرى عودة روح الله الخميني إلى إيران قادما من منفاه في فرنسا عام 1979، وبهذه المناسبة قامت السلطات هناك بترتيب حفل استقبال في مطار طهران لتجسيد لحظات وصول آية الله، واستخدمت في ذلك صورة من الورق المقوى له يحملها جنديان ويقومان بانزالها بكل مهابة من الطائرة، ثم يقومان، وهما حاملان للصورة باستعراض حرس الشرف. ثم اقيم بعدها مجلس «صوري» للخميني، جلس فيه كبار المسؤولين، في وقار جم، أمام الصورة، وكأنهم جالسون امام «الفقيه» نفسه! ولكن لو نشر «الملالي» صورا فوتوغرافية، أو فيلما وثائقيا عن الأيام الأولى لعودة الخميني، لوجدنا أن الكثيرين، إن لم يكن جميع من كانوا حوله يوما قد اختفوا قسرا أو ماتوا اغتيالا أو سجنا أو نفيا، لعدم رضاه عنهم. ولو تمعنا في المبادئ «السامية» التي قامت الثورة من أجلها لوجدنا أن لا شيء قد تحقق بصورة كاملة أو قريبة من ذلك على أرض الواقع! فالثورة جاءت لتنصر المظلوم، ولكن عدد المظلومين اليوم في إيران أكثر مما كان عليه في عهد الشاه الفاسد، والسجون اليوم مكتظة بعشرات الآلاف، بينهم نسبة عالية من المعارضين السياسيين. ولو قلنا ان الثورة قامت لرفع مستوى معيشة الشعب لوجدنا مدى هراء هذا القول، فأعداد متزايدة من الإيرانيين يريدون الهجرة لشح الوظائف، حتى قبل توقيع العقوبات. ولو قلنا ان الثورة أتت لتقضي على ظلم وفساد «السافاك»، لوجدنا أن نظام المخابرات القديم لا يزال ساريا بكل اجهزته ولم يقصَ ويقتل غير قادته. كما أن الثروات الكبرى التي صودرت ووضعت تحت إدارة مؤسسة خاصة لتنميتها ضاعت في غالبيتها في ظل نظام مهترئ، بعد أن فشل رؤساء المؤسسة وغالبيتهم من الملالي في إدارة مئات المصانع والمؤسسات الناجحة، بعد مصادرتها من اصحابها، والذين ربما كانوا أكثر فسادا ولكنهم كانوا حتما أكثر دراية بمشاريعهم!
إننا لا نسرد كل هذا للتشفي من احد أو جهة أو مهاجمة نظام ما، بل لنقدم للمتكالبين على رؤية الدولة الدينية في بلادنا نموذجا لما ستكون عليه الحال عندنا وعند غيرنا إن تحكم رجال الدين، غير المؤهلين اصلا وفصلا وعقلا وتركيبة، في مفاصل الدولة والإصرار على إدارة الاقتصاد والجيش والصناعة وحتى الفيزياء النووية. فالعملية لا علاقة لها بالنزاهة والخلق الطيب والسيرة الحميدة، على افتراض توافرها في رجال الدين، بل الأمر يتعلق بقدرات وخبرات تفوق ما لدى هؤلاء بكثير. وأوضاع دول مثل تونس ومصر وسوريا وحتى ليبيا، بشريا وماديا وموارد، ليست بأحسن من وضع إيران في شيء، ومع هذا فشل النظام الديني فيها، القائم اساسا على تحكم رجال الدين في كل مرفق، فشل على مدى أكثر من 30 عاما في تحقيق شيء عجز نظام الشاه السابق والتالف في تحقيقه، وسيستمر النزيف المادي والبشري والخلقي في إيران حتى سقوط النظام بالقوة، أو تآكله من الداخل، ولا نحتاج لننتظر طويلا لنرى النهاية! أما أولئك الذين يعتقدون بوجود ديموقراطية في إيران فهم واهمون، فالنظام بأجهزته الرقابية لا يسمح بترشح اي فرد إن لم يكن «المرشد الأعلى» شخصيا راضيا عنه، وبالتالي فهو نظام دكتاتوري لأنه يستخدم الدين في الحكم والاستمرار فيه، باسم «الشرعية الدينية»، عن طريق خداع الغالبية الساذجة، وهذا ما يسعى «الإخوان المسلمين» الى تحقيقه في أكثر من بلد، ولهؤلاء مرشدهم الأعلى، كما أن أحد كبارهم صرح في ندوة اخيرا بأن عينهم على منصب رئاسة الوزراء!
أحمد الصراف