يجاهد متزمتو الدولة الدينية في مجلس النواب الكويتي لتفصيل الدستور على شكل “بيجاما” نوم قصيرة (تتناسب مع ثقافتهم) يرتدونها في المساء، وفي النهار ينزعونها حسب متطلبات العمل السياسي ولكسب اللاوعي الجماهيري. فمرة يطالبون بتعديل المادة الثانية من الدستور لتصبح الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع، بما يعني احتمال تفجير كل القوانين السائدة في الدولة حين يرى فقهاء اللاعقلانية أن القوانين السائدة كافرة. ومرة أخرى يتقدم أمراء حضارة الربيع العربي في دول البترودولار باقتراح يسوقونه على أنه “وسطي” يتمثل في تعديل المادة ٧٩ من الدستور، بحيث لا يجوز تقديم أي قانون يخالف الشريعة، وكأن الشريعة مجرد نصوص جامدة وتفسير فقهي واحد هم وحدهم دون غيرهم أحباره يفسرونه ويؤولونه كما يملي عليهم العقل المنغلق عن الثقافات والفلسفة الإنسانية. وفي كلتا الحالتين لا فرق في النهاية بين المطلبين حين ينتهيان إلى وأد “بقايا” الدستور، وما تبقى لدينا من ذكرى عابرة عن الدولة المدنية عشنا قليلاً تحت ظلالها أيام الستينيات. يحدث هذا في الكويت التي تحيا في بحبوحة خيرات أسعار النفط ودعوات الصالحين، ونطالع في تونس المحرومة من بركة الزيت الأسود خبراً عن قرار حزب النهضة الإسلامي يرفض فيه فرض الشريعة الإسلامية كمصدر رئيسي للتشريع، ويكتفي بمادة في دستور ٥٩ تقرر أن دين الدولة هو الإسلام وأن العربية لغتها الرسمية. من يفسر هذا بأن حزب النهضة الإسلامي يحكم بائتلاف سياسي مع أحزاب أخرى علمانية هو الذي فرض مثل هذا الطرح الذكي من النهضة يعد تفسيره ناقصاً، فحزب النهضة لم ينزل وعيه التقدمي من السماء، ففي تونس فرض نظام بورقيبة منذ استقلال الدولة في أربعينيات القرن الماضي نظاماً شبه علماني في التدريس وفي القوانين وفي الثقافة التونسية بوجه عام، ورغم استبداد النظام البورقيبي فإنه وضع أرضاً صلبة للدولة المدنية للمستقبل، ورغم معاناة قادة حزب النهضة مع النظام “البورقيبي” وخلفه زين العابدين، فإن الثقافة التونسية المنفتحة فرضت نفسها على رؤية حزب النهضة لواقع الدولة، وفي هذا لا يوجد اختلاف كبير بين تاريخ تونس أيام بورقيبة وكمال أتاتورك مؤسس الدولة التركية الحديثة. مثل هذا التاريخ شبه المشترك في تركيا الكمالية وتونس البورقيبية لم يحدث في أي من الدول العربية القومية بشكليها الناصري أو البعثي، فرغم عداء تلك الدول القومية العروبية للتيارات الدينية واضطهادها لها، فإنها تناست الواقع الاجتماعي، ولم تحاول أن تنهض بالتفكير العلمي في دولها، وآثرت تلك الدول القومية العروبية الوسطية الانتهازية أن تبقي الباب مفتوحاً لخلط الدين بالسياسة، وجاء السادات في مصر والنميري في السودان ليحركا وفق مصالحهما الاستبدادية الحركات الدينية السياسية، وضرب القوى القومية الناصرية، وبقية الحكاية نعرفها حين انقلب السحر على الساحر في مصر، وهو السحر ذاته الذي قلب بن لادن المناضل ضد “الكفار” السوفيات في أفغانستان ليرفع السيف في ما بعد على حليف الأمس الساحر الأميركي. الأنظمة العربية الفاقدة للشرعية الديمقراطية اليوم التي تريد مسايرة “ربيعها” المغبر حتى تتجنب “شروره”، ضيعت بوصلتها، بسبب جهلها المركب في معنى التقدم والتغيير، فالعلة ليست علة حكم مستبد فقط، وإنما هي “علل” شعوب مغيبة الوعي التاريخي والعلمي لعقود ممتدة، والثورات الحقيقية التي تغير مستقبل شعوبها ليست “تغييراً” في شكل النظام الحاكم، وإنما في وعي الناس أي الجمهور، وتخليصه من هيمنة الأسطورة والخرافة في ثقافته، وفصل الدين كمنظومة أخلاقية إنسانية تخص الإنسان وفرديته والسياسة كتطلع للحكم. وهذا لن يحدث في “الربيع” العربي في الغد القريب، ويبقى على القوى التقدمية أن تتطلع للتجربة التونسية الفريدة كمدرسة يمكن أن يتعلموا منها الكثير لتأسيس الدولة المدنية، أما حال جماعة البيجاما الدستورية في الكويت، فلا جدوى منهم، فقضيتنا معهم خاسرة، والرهان على حماية سلطة الشيوخ لما تبقى من حرياتنا الفردية، هو رهان خاسر مقدماً، وليس على التقدميين كقلة يتقلصون يوماً بعد يوم في أمواج الدينيين غير الاعتماد على الذات، وقبل كل شيء عليهم فتح نوافذ الحوار مع الجماعات الدينية المعتدلة والمنفتحة على الآخر من طراز مدرسة الغنوشي والسائرين على دربه، فبهم يوجد بعض الأمل للتغيير.